الثلاثاء، 19 مارس 2013

أحمد بن حنبل





أحمد بن حنبل 
الإمام أحمد بن حنبل

الإمام المفترى عليه
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعى قسماته الرضا، لا يتكلم إذا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث.. حتى إذا جلس في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين!...

قال عنه بعض الفقهاء: «إنه جمع العلم كله». وقال عنه بعض العلماء: «إنه ليس من الفقه في شيء». وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد الى مصر: «تركت بغداد وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل».

وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا وميتا.

أما حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عاديات عصره.. فقد حملته أمه وهي حامل به من (مرو) ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ الى بغداد، ولم تك تضع وليدها أحمد حتى مات وترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير.. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الارملة الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربية وحيدها أحمد، فأحسنت تربيته، ودفعت به الى مقرئ ليعلمه القرآن، فختمه وهو صبي، وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكر فيه..

وعندما وثبت به الحياة الى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة الى السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أوحال النفاق والخطيئة..!

وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الإنصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسرع الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لهاضميها أو مغتصبيها.!!

ووسط هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس الى ابن الخليفة الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين الى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودعابة.. فضلا عن الدر المنثور!!.. أما سائر الناس فتنثر عليهم الدنانير والدراهم وحقاق المسك والعنبر!!

هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة ونذر نسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله(صلى الله عليه).. فاتهموه بالتزمت!

هكذا عاش حياته.!

أما بعد موته فقد ابتلي ببعض أتباع نسبوا اليه ما لم يقل وما لم يصنع، وفرعوا على أصوله ما هو بريء منها، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرة، ويفرضون ما يتخيلونه سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرههم الناس ونسبوهم الى الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم.. وأصبحت كلمة الحنبلي أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!!

ولقد كتب ابن الأثير يصف ما كان يحدث من نفر من أتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: «وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون الدور (اي يهاجمونها) فإن وجدوا بها نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في البيع والشراء. ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي فأخبرهم، وإلا ضربوه وحملوه الى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة. فأزعجوا بغداد.»

وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل بالتي هي أحسن وكان يدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام..

وما كان الإمام أحمد متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى لقد نهى عن كتابة فقهه لأه كثير العدول عن آرائه..!

وما كان ضيق الأفق، أو جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس.. ما كان الإمام احم من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود وتحررا بها في المعاملات.

ولكنه عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزيل عمود الدين فكان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة..! ولقد قال عنه أحد معاصريه: «ما رأيت في عصر أحمد بن حنبل مما رأيت، أجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وادب نفس، وكرم خلق وثبات قلب، وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت.».

ولد أحمد بن حنبل في بغداد عام 164 هـ من أبوين عربيين. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة..

وكان عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويسلمها الى والي البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها الى الخليفة إذا كان الخليفة خارج بغداد.. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل الى الوالي يسأله، فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار الى الوالي.. فسأله عمه: «ألم أبعث الأخبار الى الوالي؟» فقال: نعم، قال عمه: «فلأي شيء لم توصلها؟» قال أحمد: رميتها في الماء!.. أأنا أوصل الأخبار؟!.

وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟».

على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه، فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود.. ولكنه كان لا يكتب الكلام الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات الى الأزواج..!

ولقد أدرك منذ نشأ ان أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض الخطاب من أجله، حرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: «أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم.. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!».

لقد أنضجه الاعتماد على النفس، وحرصه على أن يكافئ أمه على صبرها وتضحيتها بالتفوق، حتى لقد أعجب أساتذته فقال أحدهم: «إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه».

على أن الفتى شعر أنه أصبح هما ثقيلا على أمه.. وإن كان قد أحسن مكافأتها بانقطاعه ال الدرس، وذيوع أمره بني الأساتذة والتلاميذ..

وكان أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فآلى بينه وبين نفسه الا يجشمها مالا بعد.

وأراد أن يوفر لأمه ما ترك ابوه من غلة العقار الذي مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل شهر.!.. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد فيم يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله.. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..!

على أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ الى الإقتراض، ولقد أدرك بعض دائنيه ضيق حاله فابى عليه رد الدين قائلا: «ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك» فقال له أحمد: «وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن اردها إليك».

على أن الحياة كانت تثقل عيه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما.. فيذهب الى المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات.. وقد هدته تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إيه.. والى هذا المبدأ انتهى في فقهه.. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكله، إلا بإذن المالك..

ولكم صقلته المعاناة وهدته الى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك انه كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من البأساء، وعرف أهوال الأسواق..!

وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما للدنيا، وتقديرا لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما أحدث من فقه ورأي..

ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من أهوال!!

قام بمعظمها على قدميه إذ لم يكن يجد أجر الدابة.. وعمل في بعضها حمالا ليعول لنفسه.. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط.. وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر..

وهو في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده..

وكان كثير الرحلة الى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته الى اليمن، وكان المأمون قد طلب من الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فابى.. فلما ألح عليه الشافعي قال له أحمد: «إن عدت الى هذا لا تراني أبدا».

بدأ أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب.. في الخامسة عشر من عمره.. وظل سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع شبابه في الثانية والعشرين.. سافر يلتمس الحديث عند شيوخ البصرة، فأقام عاما، رحل بعده الى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه الذين قدموا الحجاز معه: «إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه الى يوم القيامة».

ثم عاد الى بغداد، وعاد مرة أخرى الى الحجاز.. وهناك سمع من الإمام مالك والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر الى اليمن ليلزم شيخها عبد الرزاق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث، فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى منه.. ولقد حاول عبد الرزاق أن يصله ببعض الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى... وصمم علي أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل نساخا.. وتوالت رحلاته الى خراسان وفارس وطرسوس.. والى كل مكان يسمع أن فيه راوية حديث..

كان أحمد قد تعلم الحديث أو ما تعلم من أبي يسوف أحد أصحاب أبي حنيفة.. وكان أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس.. وقد بهر أحمد بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق.. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائل: «لا نقبل شهادة الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا او منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق!».

على أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما يريد من حديث.. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي.. وأحمد بعد أن حفظ القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث.... فما ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد وضميره الديني والإجتماعي، ولكنه تركه بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه.

ودرس على عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن واحد.. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله!!

وقد تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. كان زاهدا.. والزهد عنده التقوى.. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس أفضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة.. وقد حكى أحد معاصريه انه رأى بعيرين يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل هو الخبز والزيت، فإذا اشترى طعاما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف.. ويقول: «بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه.».. وقيل له: «قل المال فقلل من صلة الناس» فقال: «إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد.» وكان يقول: «ليس يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط»... من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس وتزاحموا احتفالا به حتى «تقطعت النعال وارتفع الغبار»، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت زحاما لم تره قط سألت: «ما هذا؟» قالوا «الفقيه العالم عبد الله بن المبارك» فقالت: «والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان»

وكان أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخص وفقهه وعلمه وبسيرته بين الناس.. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه.. فقد أدرك أحمد في مطلع شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة الى الفقر ليست زهدا، وإنما هي تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء... وإن الزهد الحق هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده.. وهو ليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه الله أو اشتهاء ما يكره.. الزهد هو التقوى..

تحمل أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان البدع..

ثم إنه خرج الى طرطوس مرابطا مستعدا للجهاد، ولبث فترة هناك ثم عاد الى بغداد. فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو المال أو بهما جميعا.

كان العصر زاخرا بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحدا يتخصص في علوم الحديث، ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن الأمة في حاجة الى التخصص.

وظل يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده.. حتى جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفاق، حتى نحل جسده، فلامه في ذلك أحد اصدقائه قائلا: «مرة الى الكوفة ومرة الى البصرة ومرة الى الحجاز ومرة الى اليمن؟!.. الى متى؟!» فقال أحمد: «مع المحبرة الى المقبرة.»

وما كان لينتهي مهما تكن المشقة.. فقد كان يطلب مع الحديث علوم الفقه.. كان فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم بإحسان.. وقد جلس في رحلاته الى الحجاز في مواسم الحج الى كل فقهاء عصره.. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي..

على أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!..

واتصلت بينهما المودة مذ لقيه لأول مرة في المسجد الحرام.. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا ومعلما فحسب، ولكنه اب أيضا...!

وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه على أبي يوسف وهو من أصحاب الرأي، ثم درس على الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله(صلى الله عليه)، حرصا جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول علي السلام إلا عم به.. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية القبطية، فذهب الى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، اسوة بالرسول(صلى الله عليه) فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها..!

وهكذا كان بره لأمه.. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعه للسنة، فقد حظ أحمد أن الرسول(صلى الله عليه) سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب سائله «أمك».. وأعاد السائل سؤاله مرتين، فأجابه: «أمك ثم أمك ثم أبوك»..

وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء.. فقد رفضت أن تدخل عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها.. ثم إنها لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات.. ورسخت في أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة..

فهي كأبيه من بني شيبان، وكانت تحظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها..

وهي التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير برد الفجر إذا خرج الى الدرس قبل الأذان.. وقد روى أحمد: «كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: «حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى يصبح الناس».

حتى إذا كان في الخامسة عشر، جاء الى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته الى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا الى العلم على الضفة الأخرى في الزوارق.. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه الى العبور قائلا: «أمي لا تدعني أركب الماء في هذا الفيضان».. وترك العبور في حسرة، وعاد الى امه لتطمئن عليه..!

لكم كان برا بوالدته!.. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، أبى هو الزواج ليفرغ للحدب عليها.. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!

وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر الوجه، تلوح في وجهه الاسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل الجسد، متوسط الطول.. مثقل القلب بم يحدث من حوله.. كثير التأمل في أحوال الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود الى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما هم فيه..

وما أبشع ما هم فيه!

ذلك أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي، وتتصارع فيها المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات. وفي بغداد مع ذلك من لايجد قوت يومه!.. وما بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليهم أن يتدبروها: إنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان!... وكم في بغداد من بيت بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع..!!..

ثم إن بغداد التي ما زالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم. إذ شاع الانحراف، وظهر الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في الشام!!

ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل الطرب والمضحكين والمنافقين..!!..

وهذه الدولة العظيمة التي تحكم العالم كله، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل، وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره... هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب التي وجدتها في البلاد، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت اليها.. هذه الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب.. وتسمح لنفسها بأن تقتل أكبر شعرائها بشار ابن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه «خليفة الله بين الله والعود».. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!.

وهذه الدولة تسمح لأمرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!!.. ذلك أن وكيل امرأة الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر.. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع الباقي.. فشكاه الخراساني الى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد. فقال له القاضي:

« يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!».. وأمر القاضي بحبس الوكيل

وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: «قاضيك هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية» فأجابها الرشيد، وأطلق سراح وكيلها، ووجه الى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!!.. ثار القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء.. ولكه حين علم أن الرشيد سيمنع من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل الى الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء.. وجلس القاضي ينظر في الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي ببينات الخراساني.. وحكم للخراساني بالمال كله.. وأخذ يسجل الحكم..

ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: «عندي لك كتاب من أمير المؤمنين». فقال له القاضي: «مكانك نحن في حكم شرعي.. مكانك حتى نفرغ منه». فقال الخادم: «كتاب أمير المؤمنين» فقال القاضي: «إسمع ما يقال لك.».

ومضى القاضي يسجل الحكم واسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه كما يعلم من قبل امر بتنحيته عن نظر القضية.. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد قال للخادم: «اقرىء امير المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد أنفذت الحكم». فقال الخادم: «قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد.. والله لأبلغن امير المؤمنين بما فعلت» فقال القاضي: «قل ما أحببت».

كان أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟!.. من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع بما فعله القاضي حفصبن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل القاضي يقول: «الحمد لله كثيرا. من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة».. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من الخراساني دون أن يدفع ثمنها.. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء!. ومن يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها الى القضاء.. أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص!

هكذا كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص.. فالحكام يسرقون ويقطعون يد السارق.. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه.. حتى صح فيهم ما قاله ذو النون المصري: «كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا له. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها.. كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. وكان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في الباطن والظاهر.».

لا خلاص إلا باللجوء الى السنة واتباعها.. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، بمن فيهم علي بن أبي طالب.

وكان أحمد يعرف أن اشد ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ذلك ان كثرة الثناء على الإمام علي، يثير عطف الناس على بنيه.. وكان بنوه قد ثاروا المرة بعد المرة على مظالم خلفاء بني أمية، ثم على خلفاء بني العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة.. ومن لم يقتل من بني علي عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج.

وكان فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من الشيعة. ثم أذيعت أراؤه وأفكاره ليستفيد منها بنو والعباس أبناء عمومته في محاربة مظالم بني أمية.. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم.. وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم.. وهكذا أخفى حكام بني العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه.. واستخفى بها الصالحون!!.. وكان العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة.. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد أو الاعتراض، حتى يهوي على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ اليم شديد..!

ولكن أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره لتكون من بعد سيرة الرسول(صلى الله عليه) أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر بآثار السلف الصالح.

بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين، أعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به.. فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهروا الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأه في الخلافة ليزعجهم، بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا.. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الإسلام!!

وكان لا يشترط لصحة الخلاف إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس.

والبيعة شرط جوهري قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم..).

فإذا تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس بالخلافة، وجبت طاعته ايا ما كان امره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى.. ويقول أحمد في ذلك: «السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسمي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء الى يوم القيامة البر والفاجر.... ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله(صلى الله عليه).».

وهو مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من الثورة عليه..!.. وهو يرى لنصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وطن لم يقر به أحد أثم الجميع..

ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى نفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم على الرغم من حاجته الملحة الى المال.. لأنهم ظالمون!!

وقد هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة.. واتهموه انه ينسب الى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يامر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا عنه عمهم الله بالعقاب.. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم الى الصواب..

ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة الى الإذعان وارضا بالظلم وبالمعصية..

غير أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعو الرعية الى الخروج عليهم.. وهو إنما يدو الى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا على السكوت عن المظالم.. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر دماء الابرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..!

ومهما يكن من شيء، فما تجرأ احد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء، ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما اقل، وأيهما أكثر فيدفع..

على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي. فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصحب الثورات من عدوان على الأنفس والحريات والأموال.. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام زيد بن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك..

وعلى الرغم من أن ابن حنبل شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط الخلافة. فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة.. وإن لم يؤيد الثورة على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن يكون الخليفة عربيا.. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!

انصرف أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من الضلال.. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند الى الصحابي ما رواه.. فكان لابد له أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل الى العلويين. وفي الحق أنه ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن الإمام عليا كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه.. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: «قال رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي: كان في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان عالما والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجهه قد خصه النبي (صلى اله عليه) بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع الى النبي (صلى الله عليه) فيمضيها.»

وقد رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول (صلى الله عليه) أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم.. ثم إنه قد خصه بعلم القرآن..

وعجب علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة.. وإذن فرأي احم بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر وجبة شرعا، وأن الثورة عليه مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة وإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء رضي الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية الفاجرة في كربلاء..!!

ما بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من ائمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام عليا بن ابي طالب كرم اله وجهه ويعتمد على فقهه؟!!

كان اللجاج شديدا في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء.. ومن أجل ذلك اشتدوا على أحمد بن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج عليه مخافة للسنة.. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد ابن معاوية، ويرى أن خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!... وهذا رأي فاسد!..

وفي الحق أن أحمد وما رأى ذلك وما أفتى به.. فقد كان يرى معاوية باغيا على الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة.. أما عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس عل هذه البيعة.. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول الله(صلى الله عليه)..

وما كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه كان يقول ما يؤمن به اتباع للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس على التأسي برسول الله، وكان يقول: «صاحب الحديث من يعمل به.».. وما كان يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا سببا آخر لخلاف هؤلاء معه.. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال لهم: «من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو عنه».. ثم رفع رأسه وقال: «إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زينها».

ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: «لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!».

وسئل عن تأييد أم المؤمنين عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: «أكان طلحة والزبير يريدان أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟»

وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال: «هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض».

وقد بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه، متبعا في ذلك رأي الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: «ويحك.. يا عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلي أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟».

وفي لحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: «إذا سئلت عن مسالة لا أعرف فيها خبرا (أي حديثا أو اثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي.»

وقد بلغ تديره للشافعي أنه أنكر على كل شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب.. إلا الشافعي.. أنكر على مالك كتابه الموطأ وقال عنه: «ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم» وقرأ كتب شيخه ابي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن، وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما.. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه.. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي في مصر، بهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه، وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها في خزانة كتبه كما يصون كنزا.. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي الى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام أهل مصر

ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقديرا كبيرا للإمام الليث، فكان لا يذكره الا بالتقدير.

وقد كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه.. وكان هو يوصيهم بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه «ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أتبع للسنة من الشافعي». وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب: «ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل».

كما قال عنه الشافعي: «رأيت في بغداد شابا إذا قال.. قال الناس كلهم صدقت.» قيل من هو؟ قال: «أحمد بن حنبل».. وقال عنه: «خرجت من بغداد، وما خلفت فيها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل»

وكان أحمد يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما صالحا من عباده، يحيي به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الاولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية».

على ان أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص، ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريق يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل من أصول فقه الشافعي.

اجتمعت لأحمد خلال رحلته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها.. وتأدب بادب الرسول.. روى الحديث: «كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق».. فكان لا يلقى الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة.. ويروي أحد أصحاب أحمد أنه خل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: «ما علمت بها، وما علمت أن أحدا كسر طنبورا بحضرتي الى الساعة». ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا الأمرين جميعا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها!.. فهو يكره لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن يتبعوا سنة الرسول(صلى الله عليه) كما علمه الله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.)

وكان أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور، سمع أن صاحبا له دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب الإمام أحم لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..!

كانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة!.. وشى به رجل الى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره.. ولو صحت الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشي مصفدا الى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه، فقال أحمد: «لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله!»

وهكذا أخذ أحمد بنفسه بالتأدب بأخلاق الرسول (صلى الله عليه).. وكان يقول: «إذا أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب».

إن أبرز ما يميز لهو التواضع.. قال له أحد الناس: «جزى الله الإسلام عن خيرا». فشاه الحياء «جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا وما أنا؟!..»

عرف شيوخه منه هذا التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به.

ذات يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح الشيخ «الا تفهمون؟» فقال الطلاب: «كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل». فقال الشيخ «أين هو؟» ودخل أحمد فقالوا: «هاهو ذا». وجلس أحمد حيث انتهى به المجلس كما تود، وكما عاش يفعل الى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: «تقدم يا أحمد» فقال أحمد: «لا أخطو على الرقاب.» فصفق الشيخ فرحا: «الله أكبر.. هذا أول الفقه».

على أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق.. بل كان على النقيض شيدا على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم.. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس.. وسمع أحمد بن حنبل هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فانبرى أحمد يقول للفقيه على مشه من الناس: «من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله!.. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له!؟.. أعوذ بالله من هذه المقالة.. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله(صلى الله عليه)، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع».. ثم قال: «ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه».

وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى اول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالما أو فاجرا، إلا أنه عدل عن رأيه عندما أنضجته التجربة فيما بعد.. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن!

ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه الى آخر العمر.. فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه عبد الله بن المبارك.. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط.. فقد كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم أحمد آثاره وفقه وتتبع سيرته واهتدى بها .. وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه الى الحج بمزبلة قوم، رأى فتاة تأخذ طائرا ميتا وتلفه، فسألها عن امرها فقالت: أنا وأخي هذا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي ان الجوع اضطرهما ال أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله وقتل.. فقال ابن المبارك لوكيله: «كم معك من النفقة؟»، قال: «الف دينار» فقال:«عد منها عشرين دينارا تكفينا الى مرو، واعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام»، ورجع..

ما ذكر أحمد هذه القصة إلا بكى.. فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟!

أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟!!.. يا حسرتا على العباد؟!..

وإذن ما جدوى العلم والفقه وما جدوى كل شيء؟!

وما الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل، وفي الأم مع ذلك مسلمون يملكون آلاف الآلاف ؟!.. وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر ويدعون إليه باسم الزهد؟!.. أي زهد هذا!؟ بل إنه لإعانة للظالم على ظلمه..!. ثم ما هذا الإنشغال الكامل بالمجردات، والقضاء والقدر، وخلق القرآن، والجبر، والإختيار؟! ما الإهتمام بهذه الأمور والحوار المصطخب حولها، والعدل معطل!!؟. إن المفكرين ليخطبون في العشوات، ويتركون الحكام يقتلون المظلومين ويصادرون أموالهم!. كم في الأمة من رجال ونساء يسقطون في الأوحال بدلا من أكل الميتة أو البحث عن القوت وسط المزابل؟!!. وكم من العلماء فكر في هؤلاء الجياع والمظلومين!!.. أعلماء وفقهاء هم، أم هم أوتاد وخشب مسندة يرتكن اليها الباغون!!

إن كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، ما دام في الأمة جياع!

وستكوى ظهورهم وجنوبهم في نار جهنم بما يكنزون من ذهب وفضة، كما أنذرهم الله تعالى في كتابه الكريم!!. والعلماء والفقهاء الذين يزينون لهم سيرتهم على أي نحو من الأنحاء، وحتى الذين يسكتون على هذا المنكر، إنما هم جميعا شياطين خرس، سيعاقبهم الله تعالى عقاب الشياطين يوم يقوم الحساب!!

إن من هؤلاء الفقهاء والعلماء من يضلل الناس عن الحقيقة جهلا منه أو غفلة أو رياء للحكام. إنهم ليحببون الفقر لعامة المسلمين، وإنهم ليعظون عامة المسلمين ألا يفكروا في غير ذكر الله، عسى أن تطمئن قلوبهم.. ولكن ما جوى ذكر الله إذا لم يعمل بهذا الذكر، إذا كنت تأكل الحرام؟!.. إن من آكلي الحرام من يستطيع أن يذكر الله ضعاف أضعاف غيره من المشغولين بالسعي في طلب الرزق!!.. ولكن ذكر الله ليس من يتحرك به لسانك، وإنما هو عمل الصالحات!..

ولقد طاف رجل على فقهاء بغداد يسألهم واحدا بعد الآخر: «بم تلين القلوب؟» قالوا: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».. ثم لقي أحمد بن حنبل فسأله، فقال أحمد: «بأكل الحلال». فعاد الرجال يطوف بهم جميعا ويذكر لهم جواب أحمد.. وكأنه نبههم من غفلة، وفتح عيونهم على الحقيقة فقالوا: «جاءك بالجوهر.. الأصل كما قال».

ألف الناس أن يسألوا أحمد بن حنبل كلما لقوه، فيجيبهم بعد التروي، وكثيرا ما كان يقول: «لا أدري»..

وأغراه بعض المعجبين به أن يتخذ له حلقة في الجامع، ويجلس ليعلم الناس ويفتيهم، فيصير إماما.. ولكنه تحرج.. فقد كان يرى أنه يجب ألا يجلس للفتوى والتدريس حتى يبلغ الأربعين.. أي في سن النبوة.. ثم إنه لا يستطيع أن يفتي وبعض اشياخه حي، فالشافعي أستاذه ما يزال حيا بمصر!..

وأمر آخر: إنه يريد قبل أن يجلس للفتوى وللتدريس، وأن يفرغ من تنسيق الأحاديث التي جمعها في رحلاته البعيدة المضنية، يريد أن يسند الأحاديث الى رواتها من الصحابة ويخض كل واحد منهم مسندا.. وعمل كبير كهذا يقتضيه الإعتزال في بيته..

وبدأ يعتكف ليجمع مسنده، ويمحص ما فيه من الأحاديث. وعاتبه بعض الذين ألفوا لقاءه، فطلب منهم أن يتركوه ليعمل ما هو أجدى من غشيان مجالس ليس فيها غير أحاديث يثرثر بها قوم ألفوا السكوت على الباطل وظلم العباد..

كان قد بدأ يدون (المسند) منذ بدء عنايته بالحديث وقد تعين عليه الآن أن يجمع شتات ما كتب، وأن يسطر على الورق كل ما حظ، وأن ينظر في هذه الأحاديث مع إمعان النظر في نصوص القرآن، ليحسن استنباط الأحكام.

وجمع (المسن) في كتب متفرقة، وظل يعمل فيه إلى آخر أيام حياته، لينسقه ابنه ويصنفه من بعده.

وكان أحمد يكتب في مسنده كل ما يحفظه من أحاديث.. وقد قال هو فيما بعد لابنه عبدالله الذي روى فقهه وبوب مسنده، بعد أن سأله عبد الله عن حديث جاء في المسند، رويت بخلافه أحاديث أخرى، قال أحمد لابنه: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طرقتي في الحديث.. لست أخالف ما ضعف من الحديث هذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.

وقد لاحظ ابن الجوزي أن بعض فقهاء الحنابلة يما بعد قد اعتبروا كل ما جاء في المسند من أحاديث صحاحا على الرغم من تنبيه أحمد بن حنبل نفسه.

حزن ابن الجوزي لهذا، وكتب: «قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روي. والبكاء يجب أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلابالله.»

أصبح أحمد بن حنبل وما في بغداد أحفظ منه للحديث، ولا أعمق مه بصرا بآثار الصحابة وفتاواهم، فضلا عن فقهه بعلوم القرآن.

وشهد شيوخ بغداد بفضله وعلمه وتقواه، وجدارته بالتدريس والإفتاء.

وهاهو ذا يبلغ الأربعين، وقد مات الإمام الشافعي، ووجب على أحمد أن يتخذ له حلقة للتدريس والإفتاء بالمسجد الجامع ببغداد.

وحددوا موعدا لحلقته بعد صلاة العصر كما فعل الإمام أبو حنيفة من أكثر من خمسين عاما..

استقر لأحمد بن حنبل الآن منهج في استنباط الأحكام، خالف فيه أبا حنيفة ومالكا بمن أنس. وتابع فيه أستاذه الشافعي. وإذن فقد أصبح أحمد ابن حنبل إماما..

وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل.

وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل.

وفي هذه الحلقات علم الناس أن من روى حديثا صحيحا ولم يعمل به، فقد نافق!

وفي هذه الحلقات تفجر فقهه أصولا وفروعا.. وأجاب على آلاف المسائل.. وازداد شهرة، وتزاحم الناس على حلقاته، وتركوا حلقات الفقهاء الآخرين، حيث وجده الناس غزير العلم، حسن الرأي، حلو الحديث، رفيق الذوق، كثير الحلم، جميل المعشر.. وجدوه حيا بالفقراء من طلاب العلم، بسواد الناس يقربهم ويهش لهم..

وقد جر عليه هذا كثيرا من العناء! فق نفس عليه بعض فقهاء بغداد، وتبدل في قلوبهم إعجابه به، ورضاهم عنه، لتشتعل الغيرة منه.

ثم إن طلاب العلم تابعوه الى بيته، ولم يتركوا له وقتا للراحة أو العمل.. وعاتبه أحد أصدقائه لأنه لم يعد يلقاه كما ألف من قبل فقال له: «إن لي أحباء هم أقرب إلي ممن ألقاهم في كل يوم، لا ألقاهم مرة في العام.»

أسرف عليه طلاب العلم ومحبوه، فأزعجوه، وما كان له حجاب ينظمون مواعيد الناس، كما كان للإمام مالك والإمام الليث من قبل، وما كان يستطيع أن يمتنع عن لقاء زواره إذا كان يعمل أو يستريح في بيته كما تعود مالك والشافعي.. وأثقل عليه أصحاب المسائل، وطلاب مودته، فخشي أن يفتن بنفسه، أ» يدهمه الغرور والكبر والزهو أو المراءاة وشكا همه الى الله تعالى، وتمنى عليه لو أهمل ذكره، أو ألقى به في شعب من شعاب مكة حيث لا يعرفه أحد..!

ما كان للناس يتركونه ليستريح، والحياء بعد يمنعه من صدهم.

ولاحظ أن في حلقاته من يكتب إجاباته وفقهه، فنهاه فما كان يحب كتابة الفقه.. وسأله سائل: لم تنهي عن كتابة الفقه وابن المبارك الذي نعرف موقعه منك كتب فقه أهل الرأي في العراق؟» أجاب: «ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقد أمرنا أن نأخذ العلم من فوق.» (أي من القرآن والسنة).

ذلك أن الإمام أحمد كان يخشى إذا دون الفقه أن تتجمد الأحكام، ويشيع التقليد فيما يأتي من العصور، والفقه ينبغي أن يتجدد بالضرورة وفق مقتضيات الزمان، يضبط هذا كله ما جاءت به نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، فهي وحدها الجديرة بالتدوين، بوصفها المعيار الموضوعي الثابت، ووعاء الأحكام الشرعية جميعا، إما بظاهر نصوصها، أو بدلالاتها الواضحة أو الخفية، وإما بالقياس على ما في النصوص من أحكام إذا تشابهت العلل والحكم.

وتعود الإمام أحمد في حلقة درسه بعد كل صلاة عصر، أن يفتي الناس وطلاب العلم عما يسألون، وأن يشغل نفسه وأهل الحلقة بما اشتعل به السلف: القرآن وتفسيره.

وكان يعلمهم أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، أو تفسرها الأحاديث الشريفة، وآثار الصحابة الذين تلقوا علهم من الرسول (صلى الله عليه).

فموضوع الدرس إذن هو القرآن واسنة وآثار الصحابة. ثم إنه ليأخذ أهل الحلقة بإتقان اللغة العربية وآدابها وعلومها، ليسهل عليهم فهم القرآن والأحاديث..

أما سائر المعارف التي انتشرت في عصر الإمام أحمد، فما كان ليسمح بطرحها في الحلقة.. وبصفة خاصة الكلام في العقيدة.. وكان المعتزلة قد أحدثوا حركة فكرية عنيفة، وتصدوا للرد على الزنادقة والملحدين بما عرفوا من علوم المنطق والفلسفة، ثم أخذوا منه حين يطرحون هم وغيرهم من المفكرين قضايا الجبر والاختيار، والقضاء والقدر ورؤية الله، وذات الله وصفاته، ووضع القرآن: أمخلوق هو أم قديم؟

ولقد تصاول المفكرون والفقهاء من قبل حول عدد من هذه القضايا مثل الجبر والاختيار، فمنهم من ذهب إلى أن الانسان حر في حدود علم الله وتقديره.

ومنهم من قال بالجبر، فالإنسان في كل افعاله مجبر فهو مسير لا اختيار له.

ومنهم من أنكر هذا كله، وقال بأن الإنسان حر الاختيار، وأن حريته هي مناط التكليف واساس الحساب، فإذا لم يكن الإنسان حرا فعلام يحاسب، وفيما الثواب والعقاب؟!.. إنه لعبث إذن وهو ما يتنزه الله تعالى عنه..

ومنهم من قال إن صفات الله جزء من ذاته العلية.

ومنهم من قال إن ما هو حسي من هذه الأوصاف والصفات يجب أن يؤول عن ظاهر معناه وأطالوا الحوار في اسماء الله تعالى أهي الذات أم صفات غير الذات العلية، وفي كيفية رؤيته يوم القيامة.

والعلم الذي يتناول هذه الأمور جميعا يسمى بعلم الكلام.. وكان علماؤه أشداء في الجدال، متمرسون باساليب الحوار..

إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رفض الحوار، أو التفكير في علم الكلام كله، وحث الناس على الا يتناولوا من أمور الدين إلا ما جرت عليه السنة وآثار الصحابة.. قال: «لا ارى الكلام إلا ما كان في كتاب أو سنة أو حديث عن رسول الله(صلى اله عليه) او عن أصحابه أما غير هذا فإن الكلام يه غير محمود».

رفض أن يطرح في حلقته أمر من العقائد، على الرغم من أن الحياة الفكرية خارج حلقته كانت تضطرب بهذه الأفكار التي تصطرع حولها عقول المفكرين والعلماء والفقهاء. وهو صراع طرح نفسه على مجالس الخلفاء، فشجعوه وأقاموا له ندوات الحوار..

ولقد تلقى الإمام أحمد كتابا من أحد أصحابه يسأله عن مناظرة علماء الكلام، فرد عليه الإمام أحمد: «الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ.»

والحق أن الإمام أحمد بن حنبل كان شديد التمسك بسيرة السلف وآثار الصحابة فيما يمس العبادات والعقائد.

أما أحكام المعاملات فقد تطور بها، وتوسع فيها، ووضع لها من القواعد ما يفتح أبواب الاجتهاد للفقهاء في كل عصر كلما دعت الحاجة. فالرجوع الى الحق فضيلة وهو خير من التمادي في الباطل.

من ذلك أنه أباح كتابة بعض فقهه لمصلحة رآها. وكان يغير آراءه ومواقفه، كلما تبين له وجه أصوب في الأمر.

ومن ذلك أنه غير موقفه من علم الكلام.. إذ تبين له أن لا مصلحة في السكوت عن علم الكلام.. وما كان العصر ليترك مثل الإمام أحمد في صمته عما يثيره المتكلمون، فوجد أن مصلح الشريعة تقتضيه أن يقول آراءه فيما يشغل الحياة الفكرية والفقهية من حوله، فهذا اجدى على الدين من الصمت، والنهي عن الحوار أو التفكير!.

فأعلن آراءه في قضايا الإيمان، والقدر، وأفعال الإنسان، وصفت الله.. ولكنه دعا عددا قليلا من خاصة العلماء والفقهاء وصفو الصحاب ليذيع فيهم هذه الآراء.. ذلك أن حلقته في الجامع كانت قد أصبحت تضم آلافا من طلاب العلم ومحبي آرائه.. وإنه ليخشى أن يتسع الحوار حول العقائد بين هذه الأعداد العديدة من الناس، فيزيغ بصر، أو يضل عقل، أو تتزل قدم بعد ثبوتها، أو يستقر خطأ ما في قلب من يؤهله علمه بعد لبحث أمور العقائد!

قال الإمام أحمد في الحلقة التي يعقدها في داره: «إن الإيمان قول وعمل، وهو يزيد وينقص، زيادته إذا احسنته ونقصانه إذا اساءت. ويخرج الرجل من الإيمان الى الإسلام، فإن تاب رجع الى الايمان. ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من الفرائض جاحدا لها. فإن تركها تهاونا بها وكسلا كان في مشيئة الله. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه»

أما رأي الإمام أحمد في مرتكب الكبيرة فهو ليس كارا، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، وليس معفوا عنه، وإنما عليه أن يتوب، وامره الى اله.. فمن زعم أنه كافر «فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار.».. وقال: لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.

وما كان الإمام أحمد ليجهر بهذه الآراء في حلقته العامة، يسيء فهمها أحد ويجسر الناس على اقتراف الكبائر.. بل خص بآرائه أهل العلم في حلقته الخاصة في داره، حيث الجو الصالح للتفكير والحوار في أمور حرجة كتلك..

وأما عن القضاء والقدر فقد قال: «أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله(صلى الله عليه) ارضا بقضاء الله، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر اله به، وابعد عما نهى عنه، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.» وقال: «الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة.»

أما عن صفت الله وأسمائه مما جاء في القرآن أو السنة، فيرى الإمام أحمد روايتها واتباعها كما جاءت، فلا نقحم عيها ما لا يصلح لضبطها وهو العقل.. فهي أمور اعتقادية ينبغي على المؤمن أن يسلم بها كما هي.. وكذلك رؤية الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء في الأحاديث الشريفة، وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها.

على أن الإمام أحمد يرى في انشغال الفكر بهذه الأمور ترفا يصلح أن يتلهى به الخلفاء والأغنياء في قصورهم! هو ترف يصلح للذين لا يعنيهم العدل، وقد تؤذيهم إقامته. والانشغال بهذا الجدل هو بعد إقصاء للفكر عن شؤون الحياة ومجافاة لمقاصد الشريعة التي تتوخى مصالح العباد.. فالفقيه الحق الفاضل يجب أن يشغل من أمور الدين بما يقيم المجتمع الفاضل الذي أراده الشارع الحكيم أي بما يحقق مصالح الناس.

وإذن فينبغي الا يشغل الفقيه التقي إلا بما يفيد الناس في حياة كل يوم.. إلا بما تحته نفع كما قال الإمام مالك بن أنس من قبل، وكما صنع الأئمة العظام أبو حنيفة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي.

أما ما يعنيه الخلفاء والأمراء والأغنياء من شغل العلماء والفقهاء والمفكرين بغير واقع حياة الناس وصرفهم الى التصارع العقلي في المتاهات، فهذا كله لا جدوى منه، وهو استدراج لهم لينشلوا عن مصالح الأمة، وعن استنباط الأحكام والضوابط التي تكفل هذه المصالح، ليخلص الخلفاء والأمراء الى ما هم فيه من ترف وظلم واستبداد؟! وليظل في الرعية من يبحث عن الطعام وسط المزابل، والرعاة متخمون!!

هكذا كان الإمام أحمد ينظر الى اشتجار الخلاف من حوله في أمور العقائد والى انشغال الفكر بها، وحرص الخلفاء والأمراء على تشجيع الانصراف إليها..

لكأن ولاة الأمور لا يريدون للفقه أن يعنى بأحوال الرعية، وأن يقيم العدل وأن يضع الميزان.. إن هؤلاء الحاكمين ليشجعون الزهاد على تمجيد الفقر، والانصراف عن هموم الحياة، وكأن الإسلام دعوة الى الفقر!.. ثم إنهم في الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم والفكر على الانصراف عن الواقع في ما وراء الواقع.. عن الحياة الى ما قبل الحياة وما بعد الحياة.. فمن بعد ذلك يحاسب الحكام على ما يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون!!؟ ومن ذا الذي يدافع عن العدل والحق ومصالح الناس؟!!

ما كان للفقهاء الابرار الذين وقفوا جهودهم على خدمة الشريعة أن يقعوا في الفخاخ!!

وهكذا جعل الإمام أحمد كل همه الى ما يفيد الناس.

وفي الحق أن الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علنا، كما فعل من قبله أبو حنيفة الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه.. كل أولئك قد أوغر ضده الصدور.

وكان استنباطه للأحكام والفتاوي يعتمد على نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة وآثارهم، ثم القياس.

قال أحمد عن القياس: «سألت الشافعي عن القياس فقال يصار إليه عند الضرورة».

وهذا هو ما فعله أحمد، فهو لا يلجأ الى القياس إلا إذا لم يجد حكما في نص القرآن أو السنة أو أقوال السلف، والسلف عنده هم الصحابة والتابعون.

فإذا اختلفت أقوال الصحابة اختار أقربها الى نصوص القرآن والسنة.

وإذا اختلفت أقوال التابعين اختار منها ما هو أقرب الى القرآن والسنة أو ما وافق قول الصحابة مجتمعين او اقرب أقوالهم الى النصوص.

وهو على خلاف من سبقوه، يقدم الحديث الضعيف على القياس.. ما دام الحديث قد صح عنده وتأكد أنه غير موضوع..

أما الإجماع فهو يرى أنه لم ينعقد بعد الصحابة.. وقال في ذلك: «ما يدعي الرجل فيه الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا.. ما يدريه؟ فليقل لا نعلم مخالفا». وقال: «قد كذب من ادعى الإجماع». أما الصحابة فهم معروفون بأسمائهم، والعلم بإجماعهم وخلافهم مسيور.

والإمام أحمد يلحق إجمال الصحابة بالسنة، لأنهم لا يجمون إلا على ما علموه علم اليقين عن الرسول (صلى الله عليه) إما رواية عنه، أو اجتهادا منهم أقربهم عليه..

فالإمام أحمد لا ينكر الإجماع بعد الصحابة ولكنه لا يتصور حدوثه.. ولهذا اعتمد على القياس بعد النصوص وآثار الصحابة..

على أنه إذ يعتمد القياس أصلا من أصول فقهه، إنما يفعل ذلك اتباعا للسنة والسلف الصالح.. ويقول: «القياس لا يستغنى، الرسول (صلى الله عليه) أخذ به، وأخذ به الصحابة من بعده.»

ويتسع القياس عن الإمام أحمد أكثر مما يتسع عند غيره من الأئمة، فالقياس عند الإمام أبي حنيفة شيخ فقهاء الرأي وشيخ القياسيين هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاتحاد العلة أو تشابهها. وعلى هذا سار الفقهاء الآخرون حتى الشافعي.

أما الإمام أحمد فلم يقتصر في القياس على علة الحكم وحدها، بل التفت الى الحكمة.

وعلة الحكم هي سببه، أم الحكمة فهي هدفه.. وهي المصلحة التي يريد تحقيقها والمضرة التي يريد تجنبها فعلة الحكم بإفطار المسافر هي السفر، أما الحكم فهي حظ النفس ودفع المشقة.. وأخذا بالحكمة يباح إفطار من كان في عمله مشقة بحيث إذا صام لم يتمكن من العمل..

وعلى هذا النحو من التوسع في القياس الأخذ بالقياس الظاهر والخفي، وبمراعاة الحكمة الى جوار العلة، أدخل الإمام أحمد في أقيسته الأخذ بالمصالح، وهي التي لم يقم على تحريمها أو إباحتها.

والإمام أحمد يأخذ بها قياسا على ورح الشريعة المستوحاة من نصوص الكتاب والسنة، وإن لم تكن قياسا على نص خاص.

ثم إنه أخذ بالاستحسان وهو الحكم في مسألة بغير ما حكم به في نظيرها، رعاية للمصلحة، على خلاف أستاذه الشافعي الذي قال: «الاستحسان تلذذ».

وأخذ الإمام أحمد بالاستصحاب وهو مصاحب الواقع، فما ثبت في الماضي ثابت في الحاضر والمستقبل وقطعا ما لم يوجد ما يغيره دليل.. فما هو مباح يظل مباحا حتى يقوم دليل على الحظر.

كما أخذ بالذرائع وهي الطرق والوسائل المؤدية الى الفعل وتوسع فيها كما لم يتوسع إمام من قبله. فهو يرى أن الطرق لتحقيق المقاصد تابعة لها، فوسائل المحرمات محرمة ووسائل المباحات مباحة كما قال ابن القيم أحد شراحه. والاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة اليه، وإلا فسد عليهم مايرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟.. ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها، علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم بأن حرمها ونهى عنها»..

من أجل ذلك اهتم الإمام أحمد بالباعث على الفعل، وبنتيجة الفعل.. فمن اراد أن يقتل رجلا بسهم ولكنه أخطأه واصاب حية كانت تريد أن تلدغ خصمه فهو آثم عند الله. لأن الباعث على فعله كان شرا وهو نية القتل.. ومن سب آلهة الوثنيين، وكانت نتيجة فعله أن سبوا هم الله ورسوله.. فهو آثم. لأن سبهم الله ورسوله نتيجة لسبه آلهة الوثنيين.

ومهما يكن اعتبار الإمام للذرائع والاستحسان والاستصحاب والمصالح: أأصول مستقلة هي، أم تدخل في باب القياس، فإن اعتماد أحمد على هذه الضوابط قد وسع فقهه، وجعله خصبا، غنيا، متحررا، متجددا أبدا، قادر على مواجهة كل ما تطرحه الحياة على عقول المجتهدين والقضاة، حريصا على مصالح العباد. ويبدو هذا في فروع الإمام أحمد وإجاباته على كثير من المسائل.. وفي كل ما عرف عنه من فتاوي وأحكام..

وآراء الإمام أحمد كانت في أكثرها إجابات عن مسائل، وهي إجابات كان فيها متبعا السنة وفتاوي الصحابة.. والسنة عنده تبيان للقرآن.

وفي مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد، لأنه لم يجد النص الذي يهتدي به، ولكنه لم يكن يسكت، بل يقول فيها كل أوجه الرأي.

على أنه كان أحيانا يقول: «لا أري.. سل غيري».

وقد ذكروا أمامه أن ابن المبارك سئل عن رجل رمى طيرا فوقع في أرض غيره لمن الصيد لصاحب الارض أو للرامي؟ فقال ابن المبارك: «لا أدري». وسئل الإمام أحمد عن رأيه في هذه المسألة: «فأجاب هذه دقيقة.. وما أري فيها».

وسأله رجل: حلفت بيمين ما أري أي شيء هو، فقال: ليت أنك إذا دريت أنت دريت أنا.

وفي اتباع الإمام أحمد للسنة وآثار السلف قال: «ما أجبت في مسالة إلا بحديث من رسول الله(صلى الله عليه) إذا وجدت السبيل إليه، أو عن الصحابة أو التابعين. فإذا وجدت عند رسول الله(صلى الله عليه) لم أعدل به الى غيره. فإذا لم أجد فمن الخلفاء الأربعة الراشدين، فإذا لم أجد فمن أصحاب رسول الله(صلى اله عليه): الأكابر فالأكابر. إن لم أجد فمن التابعين ومن تابعي التابعين. وما بلغني عمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة.»

من أجل ذلك ظل إلى آخر حياته يبحث عن الأحايث والآثار الصحاح من فتاوي الصحابة وأقضيتهم، حتى أحاديث الآحاد، والأحاديث الضعاف، إن ثبت عنده أنها صحيحة غير موضوعة.. والضعاف من الأحاديث في عرف ذلك الزمان، غيرها في عرف أه هذا الزمان. فقد كانت الأحاديث في عصره إما صحاح أو ضعاف.. فقد نفهم نحن أن الضعيف من الحديث هو المكذوب غير الصحيح أو المختلق، أما في عرف السلف فهو الحديث الذي ليس له سند قوي، ومنه الحديث الحسن!..

كان الإمام أحمد إذا لم يجد ما يريد في الحديث، يلجأ الى القياس الذي يصار إليه عند الضرورة مع توسعه فيفهم القياس وتطبيقه. فأخذ بالمصلحة قياسا على مقاصد النصوص وروحها، لا على نص بالذات، وتحرى حكمة النص بدلا من علته فحسب، أو لجا الى الاستحسان، وما الى ذلك من أصول.. وقد سمعه بعض الناس يجادل فقيها آخر في بيته ويقول له: «إيش (أي شيء) أنتم؟ لا الى الحديث تذهبون ولا الى القياس ولا الى استحسان. ما أري إيش أنتم؟»

أعمل الإمام أحمد فكره فاستنبط الأحكام من النصوص والآثار، وعن طريق القياس بمعناه الواسع فحوى المصالح والذرائع والاستصحاب.. ولجأ الى الاستحسان.

وفي الحق أنه كان متشددا في كل ما يتعلق بالعبادات والحدود التي هي قوام الدين، لأنه رأى البدع تسو والناس يترخصون، ويخرجون عن الدين، أما في المعاملات فقد اتخذ فيها مذهبا متحررا ميسرا، لأنه رأى أن الذين يستغلون الناس يضيقون عليهم باسم الدين، ورأى من الزهاد الذين يلبسون الصوف ويسمون أنسهم بالصوفية، والفقراء، من يزين للناس ترك السعي، وحب الفقر، والرضا بالظلم والقعود عن طلب العدل..

وإجابات الإمام أحمد عن المسائل، وفتاواه يظهر فيه تشدده في العبادات والحدود، وتيسيره في المعاملات.

من ذلك أنه عندما فشت الفاحشة في عصره، وشاع الشذوذ الجنسي حتى أصبح أهل الشذوذ يجهرون ويتبجحون، وأصبح لهم شأن في الدولة نشر الإمام أحمد أن الصديق ابا بكر أمر بإحراق أهل الشذوذ، عندما ارسل اليه خالد بن الوليد أنه بعد أن فتح الشام وجد فيها أهل قرية يتقرفون هذا المنكر، فأشار عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بإحراقهم أسوة بقوم لوط.

ومن ذلك أنه رأى الولاة يتقبلون الهدايا، روى أن الرسول (صلى الله عليه) جاءه أحد عماله يحمل مالا كثيرا فاحتجز نصف المال وقال إنه له فقد أهدي اليه، فغضب الرسول (صلى الله عليه) وأخذ المال كله للمسلمين، وحذرهم أن يقبل أّد مهم هدية إن تولى أمرا من أمور المسلمين وتساءل الرسول إن جلس أحدهم في بيت أبيه وأمه أكان يهدى إليه، أم أنه يهدى لأنه تولى أمرا؟ فإن استحل مالا بهذه الطريقة فقد استحق النار..!

وتأسيسا على هذا الأثر أفتى الإمام أحمد أنه لا يحق للقاضي أن يقبل هدية، ولا أي مستخدم في الدولة، ولا لمن يسعى في مصلحة لغيره عند السلطان أو أولي الأمر. وافتى بان من زاد ماله وهو يلي منصبا، وجب على السلطان أن يأخذ نصف ماله فيرده على المسلمين.

ومن ذلك أن الإمام أحمد رأى الناس قد قست قلوبهم، فافتى بأنه لا يحق لأحد أن يحمل حيوانا فوق طاقته، وأن الكلب إذا حضر طعام أحد، فعليه أن يلقي الكلب بشيء منه، وكان الناس قد فهموا منه أن ظل الكلب نجس، فسخر به بعض حساده، وما كان قد قال هذا قط، ولكنه أزرى بالأثرياء وأنكر عليهم أن يطعموا كلبهم أفخر الطعام، وفي الأمة من لا يجد طعامه إلا في المزابل، وقد لايجده حتى في المزابل!! من أجل ذلك شهروا به!

على أن الإمام أحمد نفسه جلس مرة يأكل رغيفا وما لديه طعام غيره، فجاء كلب فبصبص بذنبه.. فالقى إليه الأمام أحمد باللقمة بع اللقمة حتى تقاسما الرغيف!!.. والإمام أحمد يرى في سؤر الكلب نجاسة، على غير ما رآه الإمام مالك الذي اعتمد على آية تحل أكل ما يصيده الكلب، فقال: «أحل لنا صيده فكيف يحرم سؤره؟».. ولكن من رأي الإمام أحمد كرأي غيره من الفقهاء والأئمة إلا الإمام مالك بن أنس أن الكلب إذا لعق الإناء وجب غسله بماء طاهر، سبع مرات عن بعض الائمة، وحتى يطهر عند أحمد وإن بلغت ثماني مرات أولها بالتراب عند الجميع.

ولم يجز أحمد قتل الطير إلا لمصلحة أو لحاجة، ولا دودة القز إلا لاستخراج الحرير. واعتمد الإمام أحمد في هذا على الحديث الذي يحرم قتل العصفور إلا لمصلحة أو لحاجة.

ومن ذلك أن الشرط في العقد الصحيح ما لم يخالف القرآن والسنة، وما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا. وإذن فللزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج غيره. فإن خالف الشرط فسخ العقد ووقع الطلاق. ولها أن تشترط عليه ألا يسافر معها.

ومن ذلك أنه إذا هلك أحد من العطش أو الجوع في بلاد المسلمين، كل أثرياء المسلمين آثمون، وعليهم الدية، وولي الأمر مسؤول وعليه الدية.. وهي دية المقتول عمدا.. نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا.

* من تسبب في القتل قاتل وإن لم يقتل بيده، وإن لم يقصد اقتل.. وقد أخذ هذا الحكم من قضاء للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فقد أدخلت فتاة في ليلة زفافها الى بيتها شابا كانت تعشقه وأخفته، واكتشفه الزوج فقتله، فحكم الإمام على الزوجة الخائنة بالقتل، وعفا عن الزوج لأنه يدافع عن عرضه.

* ومن ذلك أن النية هي التي تكيف العقد وعلى هذا فزواج المحلل باطل.

* يجب نفي أهل الدعارة والمجون والفسق الى مكان يؤمن فيهم شرهم.

* القاعدون عن طلب الرزق اكتفاء بالعبادة، يجب إجبارهم على العمل، لأنهم ياكلون أموال الناس بالباطل، وطلب الزهد فرارا من المشقة إثم، وترك المكاسب مع الحاجة إليها كسل.

* إذا حكم للمدعي بيمينه بشهادة شاه واحد، ثم ثبت كذب الشاهد، فعليه الغرم كله، أي رد ما دفع للمدعي بغير حق، فإن كانا شاهدين تقاسما الغرم.

* لا يجوز الشراء ممن يرخص السلع لينزل الضرر بجاره، وعلى السلطان ان يمنعه من البيع. كذلك يطرد السلطان من السوق كل تاجر يرفع السعر ويضارب فيه.. فإذا تعدد التجار، وجب اقتلاعهم من السوق ومنعهم من التجارة.

* تمنع المضاربة على السعر نزولا أو صعودا لمن لا يريد أن يشتري.

* لا احتكار.. فالمحتكر ملعون.

* يمنع كل بيع فيه شبهة ربا، كالبيع للمدين، كمغالاة بعض التجار في الربح فهو ربا، وتحل مصادرة هذا المال، ورده بيت المال ومنع مقترف هذا العمل من الإتجار.

* أعمال السمسرة غير جائزة. والسلطان مسؤول عن مطاردة السماسرة ورد أموالهم الى المسلمين لأنه مكسب على حساب الغير بغير عمل ففيه شبهة بالقمار.

وما كان الإمام ليحرم أو يحلل صراحة بل كان يتورع عن هذا كغيره من الأئمة السابقين.. ويكتفي بأن يقول «أكره أو أحب» من ذلك أنه سئل عن بيع الماء فقال: «اكرهه».. وهو يريد أنه حرام.. وسئل عن الخمر يستعمل كالخل فقال: لا يعجبني..

* ومن ذلك جواز تحويل الدين وهو استيفاء للحق.. وهي ما تسمى حوالة الحقوق..

* ومن ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل تصرف مباح حتى يثبت دليل المنع.

* ومن ذلك: إذا شك المطلق أنه طلق واحدة أو ثلاثا.. فهي طلقة واحدة لأن الحلال ثابت بالعقد فلا يزول بالشك.

* جواز إجبار المالك على أن يسكن في بيته من لا مأوى له، بأجر المثل، إذا كان في بيته فراغ لا يحتاج إليه. والحكم ينطبق على صاحب الخان (الفندق).

* يجبر أصحاب السلع على بيعها بسعر المثل فإذا امتنعوا، رفعهم السلطان من السوق وصادر أموالهم ورد نصفها الى بيت المال.

* ومن امتنع عن أداء الزكاة، أو ماطل، أو لم يؤدها كاملة أخذت منه قسرا، وصودر ماله ورد نصفه الى بيت المال.

* يمنع تلقي السلع قبل نزولها في الأسواق، لكيلا يتحكم تاجر أو عدد من التجار في السعر.

* من وقع في معصية وعاجل بالتوبة حال تلبسه بها أو بعدها فهو معفو عنه. كمن يغتصب عقارا ثم يقدم ويعترف ويخرج من العقار فهون في حال توبة، فيعفى عنه.

وكان قد صح للإمام أحمد من السنة والآثار عن الشروط في العقود ما لم يبلغ غيره من الأئمة من قبل. ولذلك خالفهم جميعا في الشروط، فأجاز كل شرط في العقد مالم يحرم حلالا أو يحلل حراما.. وتوسع الإمام أحمد في ذلك حتى أجاز شرط الخيار في عقد الزواج. بحيث يكون لأحد الطرفين حق الفسخ بعد مدة معينة فإذا مضت المدة ولم يفسخ، استمر العقد.. وفي رأيه أنه لا دليل من الشرع يمنع هذا الشرط، ثم إن حق الفسخ يمنع الخديعة. فإذا خالف الزوج الشرط فسخ العقد، وبمقتضى رأيه في الشروط أجاز للبائع أن يبيع ويحتفظ بحق الانتفاع مدة معينة، فله أن يشترط الإقامة بسكنه الذي يبيعه مدة معينة. وأجاز اشتراط البائع على المشتري أنه إذا اراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. وأجاز أشتراط البائع على المشتري أنه إذا اراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. وأجاز أن يشترط البائع على المشتري وجوه استعمال موضوع البيع. فقد سئل عن رجل اشترى جارية فاشترط البائع عليه ألا يستخدمها إلا في التسري فحسب، فلا تخدم ولا تقوم بعمل آخر، فقال أحمد: «لا بأس».

* جواز البيع من غير تحديد الثمن، إذا اتفق المتعاقدان على سعر السوق عند التسليم دون مساومة. ويسمى بقطع السعر. وما في الكتاب ولا في السنة ولا في آثار لصحابة ما يحرم هذا، فهو على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.

* يجب التشدد في الطهارة.. فالمضمضمة والإستنشاق من فرائض الوضوء وهي عند غيره من الأئمة سنة.

* من ولي مرا من أمور المسلمين فاحتجب عنهم في داره جاز حرقه.. فقد احتجب سعد بن أبي وقاص وراء الباب عن الناس في قصره وهو أمير الكوفة، فارسل اليه الخليفة عمر بن الخطاب من أحرق عليه قصره.

* للمار بثمر غيره أن يأكل حتى يشبع ما لم يكن على الثمر سور أو حارس.. ولكن لا يجوز للمار أن يحمل من الثمر.

* للرجل ان يشهد على امرأته بالزنا ويقسم اليمين دون حاجة الى أربعة شهداء، إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل اليها ويخرج. وتعاقب الزوجة بحد الزنا.

* للمرأة إذا تزوج عليها زوجها أن تطالبه بمؤخر صداقها وإن لم تطلق.

* البينة التي تثبت الحق لصاحبه ليست محصورة في أشكال او صيغ، بل هي كل ما يبين به الحق من الأمارات والأدلة، فلو تنازع الساكن ومالك المسكن على شيء نفيس مخبأ في المسكن، فالشيء لمن وصفه منهما وصفا دقيقا منضبطا، وإن حلف الآخر وجاء بالشهود.

* لا يتحقق السجود في الصلاة إلا بأن تمس الأنف الأرض، وذلك من تمام شعور العابد بالعبودية (والأرض هي ما يصلي عليه العابد مجردة أو مفروشة).

* تغسل النجاسة بماء طاهر حتى يزول كل آثارها، وأقل ما تغسل به النجاسة سبع مرات. وإذا شك المتوضىء في طهارة الماء، تركه وتيمم.

* السنة في الصلاة أن يخفف الإمام ففلا يطيل رعاية لحال المأمومين، وتكره إمامة من لا يرضى عنه أكثر المصلين.

* الأذان في الصلاة يجب أن يكون باللغة العربية (وقد أجاز غيره من الفقهاء أن يكون بغيرها). وكذلك الصلاة.

* السنة في الصيام هي الفطر في السفر. والفطر في الغزو أحرى. وقد خرج الرسول (صلى اله عليه) للفتح في رمضان، فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته ليراه الناس وقال: «تقووا لأعدائكم»..

* طاعة الوالدين فريضة، وهي جزء من الإيمان، وقد جعلها اله بعد التوحيد، (وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) فمعصية الوالدين أو الإساءة إليهما كالشرك به تعالى، بهذا نزل القرآن وعليه نصت الأحاديث الشريفة ورعاية الأم أولى كما جاء في الحديث. وقد سمع الرسول (صلى الله عليه) قصة زاهد شغلته العبادة عن الرد على أمه وكانت في حاجة إليه، فاصابها اذى، فعقب الرسول على سلوك العابد بأنه لو خرج من صلاته، وأجاب أمه، لكان أحب الى الله تعالى وأقرب. وقد روى الإمام أحمد عن الصحابة والتابعين أنه إذا استأذن ولد والدته للخروج مجاهدا في سبيل اله، فأذنت له، وعلم أن هواها في المقام، فليقم. وقال الإمام أحمد لطالب في حلقته تريده أمه على التجارة، وهو يريد العلم: «دارها وارضها ولا تدع الطلب.»

* يجوز للأب أن يفضل أحد ولده بالهبة إذا كان هذا الولد في حاجة بسبب العجز عن الكسب لانقطاعه للعلم، أو لعاهة به، أو لكثرة عياله.

* الأحكام يجب أن توق بين الظاهر والباطن، فيؤخذ بالظاهر إذا كان الحال في غنى عن البينة لأن الأمارات القوية تؤيده أو كان بينة في ذاته. كأن يظهر الحمل على امرأة ليس لها زوج، أو كأن يشاهد رجل يجري وفي يده عمامة، وعلى رأسه عمامة أخرى، يطارده رجل آخر بلا عمامة!

* لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه، قد يثبت أنه يجافي الحقيقة.

فقد حدث أن جاءت امرأة تخاصم زوجها، فارسلت عينيها وبكت، قال أحد القوم: «مهلا» فإن أخوة يوسف (جاءوا أباهم عشاء يبكون).

وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أمرأة بالمدينة أحبت شابا من الأنصار، ولكنه لم يطعها فيما تريد، فجاءت ببيضة وألقت صفرتها، وسكبت البياض على فخذيها وثوبها، ثم جاءت الى الخليفة عمر صارخة فقالت: «إن ببدنها وثوبها آثار الرجل». فهم بعقوبة الشاب، فأخذ يستغيث ويقول: «يا أمير المؤمنين تثبت في أمري. فواله ما أتيت فاحشة ولا هممت بها، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت». فنظر عمر الى علي بن أبي طالب كرم اله وجهه وقال: «يا ابا الحسن ما ترى في أمرها.» فنظر علي إلى ما على الثوب، ودعا بماء حار شديد الغليان، فصب على الثوب فجمد البياض، وظهرت رائحة البيض، فزجر الخليفة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه المرأة اعترفت، وعاقبها.

ومن رأي الإمام أحمد أنه لا يؤخذ بالظاهر على "طلاقه حتى إذا اعترف المذنب.

وقد روى انه حدث في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اله عنه، أن أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخ بالدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه. فسأله أمير المؤمنين فقال: «أنا قتلته.» فقال: «اذهبوا به فاقتلوه.» فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا، فقال: «يا قوم لا تعجلوا، ردوه الى علي». فردوه. فقال الرجل: «يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه، أنا قتلته» فقال علي للأول: «ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟». قال: «يا أمير المؤمنين، وما استطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأن واقف، وفي يدي سكين وفيها أثر الدم وقد أخذت في خربة؟ فخفت لا يقبل مني، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي لله.» فقال علي: «بئس ما صنعت! فكيف كان حديثك؟». فقال الرجل إنه قصاب ذبح بقر وسلخها، وأخذه البول فأسرع الى الخربة يقضي حاجته والسكين بيده، فرأى القتيل فوقف ينظر اليه فإذا بالشرطة تمسك به. وأما القاتل فاعترف بأن الشيطان زين له أن يذبح القتيل ليسرقه ثم سمع خطو أقدام فاختفى في الظلام، حتى دخل القصاب فأدركه العسس فأمسكوا به. ولما رأى الخليفة امر بقتل القصاب، خشي أن يبوء بدمه فاعترف. وأخلى علي سبيل القاتل لأنه إن كان قد قتل نفسا، فقد أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.» وأخرج الدية من بيت المال.

وكان الإمام يستشهد في أحكامه بالأخبار والقصص، ففيها عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى. وكان يطلب من تلاميذه أن يكثروا من قراءة اقصص ليعتبروا.

ومما رواه من قصص تؤيد رأيه في عدم الأخذ بالظاهر على إطلاقه، أن امرأة في عهد الرسول (صلى الله عليه) اغتصبها رجل وهي في الطريق الى المسجد لصلاة الفجر، استغاثت برجل مر عليها، وفر المغتصب، ومر نفر وهي ما تزال تصرخ فأدركوا الرجل الذي كانت قد استغاثت به، فأخذوه وجاءوا به إليها، فقال الرجل: «أنا الذي أغثتك وقد فر الآخر» فأتوا به رسول الله(صلى الله عليه) أخبرته أنه وقع عليها وشهد عليه القوم. فقال: «إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني». فقالت: «كذب. هو الذي وقع علي». فقال رسول الله: «انطلقوا به فارجموه.» فقام رجل فقال: «لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل». فقال القوم: «يا رسول الله أرجمه» فقال: «لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم».

* يفضل الإمام أحمد للمسلمين أن يغزوا تحت قيادة القوي وإن كان فاجرا، على الضعيف وإن كان صالحا ويقول: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره لنفسه. وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين. فيغزي مع القوي الفاجر جلبا للمصلحة العامة.

* لا يحبس المدين في دين. فلم يحبس رسول الله(صلى الله عليه) رجلا في دين قط، ولا الخلفاء الراشدون من بعده، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الحبس في الدين ظلم». وكذلك لا يحبس الزوج في مؤخر الصداق ولم يحبس الرسول ولا أحد من الخفاء الراشدين زوجا في مؤخر صداق أصلا. ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه) ولا من بعده لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها، كما جاء في رسالة الليث الى مالك. فالأمة مجمعة على أن المرأة لا تطالب به قبل أجله بل هو كسائر الديون المؤجلة فليس لها حق فيه إلا بالموت أو الطلاق أو الزواج بغيرها.. ولا تقوم مصلحة الناس إلا بهذا. ويضيف الإمام أحمد في ذلك: «من حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة (أي مؤخر الصداق)، وحبس الأزواج عليها، حث من الشرور والمفاسد ما الله به عليم وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت، تدعي بصداقها وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت. فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه»..!

* كل أنواع المعاملات مباح إلا ما يحظره نص أو القياس على نص. وكل العقود واجبة الوفاء إلا إذا قام دليل شرعي على المنع. وكل ما احتاج إليه الناس في معايشهم ولم يكن سببه معصية لم يحرم عليهم، لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. ولا يشترط لانعقاد العقد أي شكل أو صيغة بل ينعقد بالنية والإفصاح عنها. وبعض العقود لا يثبت إلا بالكتابة. وقد ينعقد العقد بممارسة الفعل أو بما يقتضيه العرف كالعقد مع صاحب الخان (الفندق) أو صاحب الحمام، ينعقد بدخول المكان ورضا صاحبه. وأكثر تصرفات التجارة قائم على العرف. ولكن النية والقبول يجب ألا يعيب أيهما شيء، فاساس المعاملات الرضا، وكل ما يشوب الرضا يفسد التعاقد إكراها كان أم خديعة أم غشا أم تدليسا أم غبنا.

وقد حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن تزوج شيخ كبير يخضب بالسواد بفتاة شابة حسناء وبعد حين ظهر البياض على شعر الزوج ولحيته، فكرهته العروس وقالت إنها خدعت بشبابه.. وما هو بشاب. وشكاه أهلها الى عمر قائلين: «حسبناه شابا». فضربه عمر ضربا موجعا وقال له: «غرت بالقوم». وفرق بينهما.

* الغاية ترتبط بالوسيلة المؤدية إليها، وترتبط المقدمة بالنتيجة، فما هو سبيل الى المباح مباح، وما هو وسيلة الى المحظور محظور، وإذا فسدت إحداهما فسدت الأخرى، فإثبات الحق مباح بل هو مطلوب، على ألا تكون الوسيلة محظورة كشهادة الزور.

وتستثنى من القاعدة حالات الضرورة أو الحاجة.. فيجوز للطبيب الاطلاع على عورة المريضة لعلاجها وإنقاذ حياتها.

* من الواجب توفير كل ما فيه صلاح الناس، وفتح الطريق للتوبة وإصلاح ذات البين وصيانة كيان الأسرة.

وروى أحمد: «جاءت الى علي بن أبي طالب امرأة فقالت: «إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري». قال للرجل: «ما تقول؟». قال: «ما وقت عليها إلا بأمرها». فقال: «إن كنت صادقة رجمته (بالزنا) وإن كنت كاذبة جلدتك الحد (للقذف). و«أقيمت الصلاة فقام أمير المؤمنين علي يصلي. وفكرت امرأة فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها، ولا في أن تجلد ولت هاربة. ولم يسأل عنها أمير المؤمنين».

وقد قيل للإمام أحمد «فلان يشرب». فقال: «هو أعلمكم شرب أم لم يشرب». وقال عن جماعة من العلماء يشربون النبيذ: «تلك سقطاتها لكنها لا تذهب حسناتهم».

* على القادر أن ينفق على كل ذوي الأرحام الف
Ardalsharq.com 2000-2003
webmaster@ardalsharq.com
Tel: 20124501559


أحمد بن حنبل





أحمد بن حنبل 
الإمام أحمد بن حنبل

الإمام المفترى عليه
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعى قسماته الرضا، لا يتكلم إذا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث.. حتى إذا جلس في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين!...

قال عنه بعض الفقهاء: «إنه جمع العلم كله». وقال عنه بعض العلماء: «إنه ليس من الفقه في شيء». وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد الى مصر: «تركت بغداد وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل».

وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا وميتا.

أما حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عاديات عصره.. فقد حملته أمه وهي حامل به من (مرو) ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ الى بغداد، ولم تك تضع وليدها أحمد حتى مات وترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير.. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الارملة الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربية وحيدها أحمد، فأحسنت تربيته، ودفعت به الى مقرئ ليعلمه القرآن، فختمه وهو صبي، وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكر فيه..

وعندما وثبت به الحياة الى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة الى السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أوحال النفاق والخطيئة..!

وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الإنصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسرع الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لهاضميها أو مغتصبيها.!!

ووسط هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس الى ابن الخليفة الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين الى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودعابة.. فضلا عن الدر المنثور!!.. أما سائر الناس فتنثر عليهم الدنانير والدراهم وحقاق المسك والعنبر!!

هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة ونذر نسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله(صلى الله عليه).. فاتهموه بالتزمت!

هكذا عاش حياته.!

أما بعد موته فقد ابتلي ببعض أتباع نسبوا اليه ما لم يقل وما لم يصنع، وفرعوا على أصوله ما هو بريء منها، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرة، ويفرضون ما يتخيلونه سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرههم الناس ونسبوهم الى الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم.. وأصبحت كلمة الحنبلي أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!!

ولقد كتب ابن الأثير يصف ما كان يحدث من نفر من أتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: «وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون الدور (اي يهاجمونها) فإن وجدوا بها نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في البيع والشراء. ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي فأخبرهم، وإلا ضربوه وحملوه الى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة. فأزعجوا بغداد.»

وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل بالتي هي أحسن وكان يدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام..

وما كان الإمام أحمد متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى لقد نهى عن كتابة فقهه لأه كثير العدول عن آرائه..!

وما كان ضيق الأفق، أو جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس.. ما كان الإمام احم من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود وتحررا بها في المعاملات.

ولكنه عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزيل عمود الدين فكان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة..! ولقد قال عنه أحد معاصريه: «ما رأيت في عصر أحمد بن حنبل مما رأيت، أجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وادب نفس، وكرم خلق وثبات قلب، وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت.».

ولد أحمد بن حنبل في بغداد عام 164 هـ من أبوين عربيين. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة..

وكان عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويسلمها الى والي البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها الى الخليفة إذا كان الخليفة خارج بغداد.. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل الى الوالي يسأله، فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار الى الوالي.. فسأله عمه: «ألم أبعث الأخبار الى الوالي؟» فقال: نعم، قال عمه: «فلأي شيء لم توصلها؟» قال أحمد: رميتها في الماء!.. أأنا أوصل الأخبار؟!.

وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟».

على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه، فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود.. ولكنه كان لا يكتب الكلام الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات الى الأزواج..!

ولقد أدرك منذ نشأ ان أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض الخطاب من أجله، حرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: «أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم.. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!».

لقد أنضجه الاعتماد على النفس، وحرصه على أن يكافئ أمه على صبرها وتضحيتها بالتفوق، حتى لقد أعجب أساتذته فقال أحدهم: «إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه».

على أن الفتى شعر أنه أصبح هما ثقيلا على أمه.. وإن كان قد أحسن مكافأتها بانقطاعه ال الدرس، وذيوع أمره بني الأساتذة والتلاميذ..

وكان أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فآلى بينه وبين نفسه الا يجشمها مالا بعد.

وأراد أن يوفر لأمه ما ترك ابوه من غلة العقار الذي مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل شهر.!.. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد فيم يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله.. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..!

على أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ الى الإقتراض، ولقد أدرك بعض دائنيه ضيق حاله فابى عليه رد الدين قائلا: «ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك» فقال له أحمد: «وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن اردها إليك».

على أن الحياة كانت تثقل عيه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما.. فيذهب الى المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات.. وقد هدته تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إيه.. والى هذا المبدأ انتهى في فقهه.. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكله، إلا بإذن المالك..

ولكم صقلته المعاناة وهدته الى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك انه كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من البأساء، وعرف أهوال الأسواق..!

وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما للدنيا، وتقديرا لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما أحدث من فقه ورأي..

ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من أهوال!!

قام بمعظمها على قدميه إذ لم يكن يجد أجر الدابة.. وعمل في بعضها حمالا ليعول لنفسه.. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط.. وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر..

وهو في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده..

وكان كثير الرحلة الى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته الى اليمن، وكان المأمون قد طلب من الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فابى.. فلما ألح عليه الشافعي قال له أحمد: «إن عدت الى هذا لا تراني أبدا».

بدأ أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب.. في الخامسة عشر من عمره.. وظل سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع شبابه في الثانية والعشرين.. سافر يلتمس الحديث عند شيوخ البصرة، فأقام عاما، رحل بعده الى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه الذين قدموا الحجاز معه: «إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه الى يوم القيامة».

ثم عاد الى بغداد، وعاد مرة أخرى الى الحجاز.. وهناك سمع من الإمام مالك والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر الى اليمن ليلزم شيخها عبد الرزاق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث، فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى منه.. ولقد حاول عبد الرزاق أن يصله ببعض الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى... وصمم علي أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل نساخا.. وتوالت رحلاته الى خراسان وفارس وطرسوس.. والى كل مكان يسمع أن فيه راوية حديث..

كان أحمد قد تعلم الحديث أو ما تعلم من أبي يسوف أحد أصحاب أبي حنيفة.. وكان أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس.. وقد بهر أحمد بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق.. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائل: «لا نقبل شهادة الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا او منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق!».

على أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما يريد من حديث.. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي.. وأحمد بعد أن حفظ القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث.... فما ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد وضميره الديني والإجتماعي، ولكنه تركه بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه.

ودرس على عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن واحد.. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله!!

وقد تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. كان زاهدا.. والزهد عنده التقوى.. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس أفضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة.. وقد حكى أحد معاصريه انه رأى بعيرين يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل هو الخبز والزيت، فإذا اشترى طعاما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف.. ويقول: «بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه.».. وقيل له: «قل المال فقلل من صلة الناس» فقال: «إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد.» وكان يقول: «ليس يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط»... من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس وتزاحموا احتفالا به حتى «تقطعت النعال وارتفع الغبار»، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت زحاما لم تره قط سألت: «ما هذا؟» قالوا «الفقيه العالم عبد الله بن المبارك» فقالت: «والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان»

وكان أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخص وفقهه وعلمه وبسيرته بين الناس.. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه.. فقد أدرك أحمد في مطلع شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة الى الفقر ليست زهدا، وإنما هي تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء... وإن الزهد الحق هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده.. وهو ليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه الله أو اشتهاء ما يكره.. الزهد هو التقوى..

تحمل أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان البدع..

ثم إنه خرج الى طرطوس مرابطا مستعدا للجهاد، ولبث فترة هناك ثم عاد الى بغداد. فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو المال أو بهما جميعا.

كان العصر زاخرا بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحدا يتخصص في علوم الحديث، ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن الأمة في حاجة الى التخصص.

وظل يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده.. حتى جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفاق، حتى نحل جسده، فلامه في ذلك أحد اصدقائه قائلا: «مرة الى الكوفة ومرة الى البصرة ومرة الى الحجاز ومرة الى اليمن؟!.. الى متى؟!» فقال أحمد: «مع المحبرة الى المقبرة.»

وما كان لينتهي مهما تكن المشقة.. فقد كان يطلب مع الحديث علوم الفقه.. كان فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم بإحسان.. وقد جلس في رحلاته الى الحجاز في مواسم الحج الى كل فقهاء عصره.. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي..

على أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!..

واتصلت بينهما المودة مذ لقيه لأول مرة في المسجد الحرام.. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا ومعلما فحسب، ولكنه اب أيضا...!

وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه على أبي يوسف وهو من أصحاب الرأي، ثم درس على الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله(صلى الله عليه)، حرصا جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول علي السلام إلا عم به.. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية القبطية، فذهب الى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، اسوة بالرسول(صلى الله عليه) فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها..!

وهكذا كان بره لأمه.. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعه للسنة، فقد حظ أحمد أن الرسول(صلى الله عليه) سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب سائله «أمك».. وأعاد السائل سؤاله مرتين، فأجابه: «أمك ثم أمك ثم أبوك»..

وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء.. فقد رفضت أن تدخل عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها.. ثم إنها لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات.. ورسخت في أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة..

فهي كأبيه من بني شيبان، وكانت تحظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها..

وهي التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير برد الفجر إذا خرج الى الدرس قبل الأذان.. وقد روى أحمد: «كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: «حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى يصبح الناس».

حتى إذا كان في الخامسة عشر، جاء الى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته الى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا الى العلم على الضفة الأخرى في الزوارق.. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه الى العبور قائلا: «أمي لا تدعني أركب الماء في هذا الفيضان».. وترك العبور في حسرة، وعاد الى امه لتطمئن عليه..!

لكم كان برا بوالدته!.. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، أبى هو الزواج ليفرغ للحدب عليها.. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!

وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر الوجه، تلوح في وجهه الاسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل الجسد، متوسط الطول.. مثقل القلب بم يحدث من حوله.. كثير التأمل في أحوال الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود الى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما هم فيه..

وما أبشع ما هم فيه!

ذلك أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي، وتتصارع فيها المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات. وفي بغداد مع ذلك من لايجد قوت يومه!.. وما بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليهم أن يتدبروها: إنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان!... وكم في بغداد من بيت بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع..!!..

ثم إن بغداد التي ما زالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم. إذ شاع الانحراف، وظهر الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في الشام!!

ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل الطرب والمضحكين والمنافقين..!!..

وهذه الدولة العظيمة التي تحكم العالم كله، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل، وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره... هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب التي وجدتها في البلاد، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت اليها.. هذه الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب.. وتسمح لنفسها بأن تقتل أكبر شعرائها بشار ابن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه «خليفة الله بين الله والعود».. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!.

وهذه الدولة تسمح لأمرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!!.. ذلك أن وكيل امرأة الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر.. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع الباقي.. فشكاه الخراساني الى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد. فقال له القاضي:

« يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!».. وأمر القاضي بحبس الوكيل

وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: «قاضيك هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية» فأجابها الرشيد، وأطلق سراح وكيلها، ووجه الى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!!.. ثار القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء.. ولكه حين علم أن الرشيد سيمنع من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل الى الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء.. وجلس القاضي ينظر في الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي ببينات الخراساني.. وحكم للخراساني بالمال كله.. وأخذ يسجل الحكم..

ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: «عندي لك كتاب من أمير المؤمنين». فقال له القاضي: «مكانك نحن في حكم شرعي.. مكانك حتى نفرغ منه». فقال الخادم: «كتاب أمير المؤمنين» فقال القاضي: «إسمع ما يقال لك.».

ومضى القاضي يسجل الحكم واسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه كما يعلم من قبل امر بتنحيته عن نظر القضية.. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد قال للخادم: «اقرىء امير المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد أنفذت الحكم». فقال الخادم: «قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد.. والله لأبلغن امير المؤمنين بما فعلت» فقال القاضي: «قل ما أحببت».

كان أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟!.. من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع بما فعله القاضي حفصبن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل القاضي يقول: «الحمد لله كثيرا. من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة».. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من الخراساني دون أن يدفع ثمنها.. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء!. ومن يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها الى القضاء.. أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص!

هكذا كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص.. فالحكام يسرقون ويقطعون يد السارق.. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه.. حتى صح فيهم ما قاله ذو النون المصري: «كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا له. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها.. كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. وكان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في الباطن والظاهر.».

لا خلاص إلا باللجوء الى السنة واتباعها.. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، بمن فيهم علي بن أبي طالب.

وكان أحمد يعرف أن اشد ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ذلك ان كثرة الثناء على الإمام علي، يثير عطف الناس على بنيه.. وكان بنوه قد ثاروا المرة بعد المرة على مظالم خلفاء بني أمية، ثم على خلفاء بني العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة.. ومن لم يقتل من بني علي عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج.

وكان فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من الشيعة. ثم أذيعت أراؤه وأفكاره ليستفيد منها بنو والعباس أبناء عمومته في محاربة مظالم بني أمية.. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم.. وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم.. وهكذا أخفى حكام بني العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه.. واستخفى بها الصالحون!!.. وكان العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة.. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد أو الاعتراض، حتى يهوي على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ اليم شديد..!

ولكن أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره لتكون من بعد سيرة الرسول(صلى الله عليه) أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر بآثار السلف الصالح.

بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين، أعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به.. فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهروا الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأه في الخلافة ليزعجهم، بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا.. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الإسلام!!

وكان لا يشترط لصحة الخلاف إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس.

والبيعة شرط جوهري قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم..).

فإذا تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس بالخلافة، وجبت طاعته ايا ما كان امره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى.. ويقول أحمد في ذلك: «السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسمي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء الى يوم القيامة البر والفاجر.... ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله(صلى الله عليه).».

وهو مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من الثورة عليه..!.. وهو يرى لنصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وطن لم يقر به أحد أثم الجميع..

ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى نفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم على الرغم من حاجته الملحة الى المال.. لأنهم ظالمون!!

وقد هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة.. واتهموه انه ينسب الى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يامر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا عنه عمهم الله بالعقاب.. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم الى الصواب..

ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة الى الإذعان وارضا بالظلم وبالمعصية..

غير أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعو الرعية الى الخروج عليهم.. وهو إنما يدو الى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا على السكوت عن المظالم.. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر دماء الابرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..!

ومهما يكن من شيء، فما تجرأ احد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء، ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما اقل، وأيهما أكثر فيدفع..

على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي. فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصحب الثورات من عدوان على الأنفس والحريات والأموال.. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام زيد بن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك..

وعلى الرغم من أن ابن حنبل شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط الخلافة. فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة.. وإن لم يؤيد الثورة على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن يكون الخليفة عربيا.. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!

انصرف أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من الضلال.. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند الى الصحابي ما رواه.. فكان لابد له أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل الى العلويين. وفي الحق أنه ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن الإمام عليا كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه.. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: «قال رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي: كان في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان عالما والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجهه قد خصه النبي (صلى اله عليه) بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع الى النبي (صلى الله عليه) فيمضيها.»

وقد رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول (صلى الله عليه) أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم.. ثم إنه قد خصه بعلم القرآن..

وعجب علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة.. وإذن فرأي احم بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر وجبة شرعا، وأن الثورة عليه مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة وإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء رضي الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية الفاجرة في كربلاء..!!

ما بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من ائمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام عليا بن ابي طالب كرم اله وجهه ويعتمد على فقهه؟!!

كان اللجاج شديدا في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء.. ومن أجل ذلك اشتدوا على أحمد بن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج عليه مخافة للسنة.. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد ابن معاوية، ويرى أن خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!... وهذا رأي فاسد!..

وفي الحق أن أحمد وما رأى ذلك وما أفتى به.. فقد كان يرى معاوية باغيا على الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة.. أما عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس عل هذه البيعة.. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول الله(صلى الله عليه)..

وما كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه كان يقول ما يؤمن به اتباع للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس على التأسي برسول الله، وكان يقول: «صاحب الحديث من يعمل به.».. وما كان يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا سببا آخر لخلاف هؤلاء معه.. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال لهم: «من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو عنه».. ثم رفع رأسه وقال: «إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زينها».

ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: «لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!».

وسئل عن تأييد أم المؤمنين عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: «أكان طلحة والزبير يريدان أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟»

وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال: «هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض».

وقد بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه، متبعا في ذلك رأي الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: «ويحك.. يا عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلي أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟».

وفي لحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: «إذا سئلت عن مسالة لا أعرف فيها خبرا (أي حديثا أو اثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي.»

وقد بلغ تديره للشافعي أنه أنكر على كل شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب.. إلا الشافعي.. أنكر على مالك كتابه الموطأ وقال عنه: «ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم» وقرأ كتب شيخه ابي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن، وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما.. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه.. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي في مصر، بهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه، وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها في خزانة كتبه كما يصون كنزا.. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي الى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام أهل مصر

ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقديرا كبيرا للإمام الليث، فكان لا يذكره الا بالتقدير.

وقد كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه.. وكان هو يوصيهم بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه «ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أتبع للسنة من الشافعي». وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب: «ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل».

كما قال عنه الشافعي: «رأيت في بغداد شابا إذا قال.. قال الناس كلهم صدقت.» قيل من هو؟ قال: «أحمد بن حنبل».. وقال عنه: «خرجت من بغداد، وما خلفت فيها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل»

وكان أحمد يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما صالحا من عباده، يحيي به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الاولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية».

على ان أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص، ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريق يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل من أصول فقه الشافعي.

اجتمعت لأحمد خلال رحلته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها.. وتأدب بادب الرسول.. روى الحديث: «كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق».. فكان لا يلقى الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة.. ويروي أحد أصحاب أحمد أنه خل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: «ما علمت بها، وما علمت أن أحدا كسر طنبورا بحضرتي الى الساعة». ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا الأمرين جميعا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها!.. فهو يكره لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن يتبعوا سنة الرسول(صلى الله عليه) كما علمه الله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.)

وكان أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور، سمع أن صاحبا له دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب الإمام أحم لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..!

كانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة!.. وشى به رجل الى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره.. ولو صحت الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشي مصفدا الى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه، فقال أحمد: «لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله!»

وهكذا أخذ أحمد بنفسه بالتأدب بأخلاق الرسول (صلى الله عليه).. وكان يقول: «إذا أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب».

إن أبرز ما يميز لهو التواضع.. قال له أحد الناس: «جزى الله الإسلام عن خيرا». فشاه الحياء «جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا وما أنا؟!..»

عرف شيوخه منه هذا التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به.

ذات يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح الشيخ «الا تفهمون؟» فقال الطلاب: «كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل». فقال الشيخ «أين هو؟» ودخل أحمد فقالوا: «هاهو ذا». وجلس أحمد حيث انتهى به المجلس كما تود، وكما عاش يفعل الى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: «تقدم يا أحمد» فقال أحمد: «لا أخطو على الرقاب.» فصفق الشيخ فرحا: «الله أكبر.. هذا أول الفقه».

على أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق.. بل كان على النقيض شيدا على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم.. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس.. وسمع أحمد بن حنبل هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فانبرى أحمد يقول للفقيه على مشه من الناس: «من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله!.. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له!؟.. أعوذ بالله من هذه المقالة.. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله(صلى الله عليه)، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع».. ثم قال: «ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه».

وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى اول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالما أو فاجرا، إلا أنه عدل عن رأيه عندما أنضجته التجربة فيما بعد.. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن!

ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه الى آخر العمر.. فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه عبد الله بن المبارك.. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط.. فقد كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم أحمد آثاره وفقه وتتبع سيرته واهتدى بها .. وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه الى الحج بمزبلة قوم، رأى فتاة تأخذ طائرا ميتا وتلفه، فسألها عن امرها فقالت: أنا وأخي هذا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي ان الجوع اضطرهما ال أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله وقتل.. فقال ابن المبارك لوكيله: «كم معك من النفقة؟»، قال: «الف دينار» فقال:«عد منها عشرين دينارا تكفينا الى مرو، واعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام»، ورجع..

ما ذكر أحمد هذه القصة إلا بكى.. فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟!

أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟!!.. يا حسرتا على العباد؟!..

وإذن ما جدوى العلم والفقه وما جدوى كل شيء؟!

وما الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل، وفي الأم مع ذلك مسلمون يملكون آلاف الآلاف ؟!.. وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر ويدعون إليه باسم الزهد؟!.. أي زهد هذا!؟ بل إنه لإعانة للظالم على ظلمه..!. ثم ما هذا الإنشغال الكامل بالمجردات، والقضاء والقدر، وخلق القرآن، والجبر، والإختيار؟! ما الإهتمام بهذه الأمور والحوار المصطخب حولها، والعدل معطل!!؟. إن المفكرين ليخطبون في العشوات، ويتركون الحكام يقتلون المظلومين ويصادرون أموالهم!. كم في الأمة من رجال ونساء يسقطون في الأوحال بدلا من أكل الميتة أو البحث عن القوت وسط المزابل؟!!. وكم من العلماء فكر في هؤلاء الجياع والمظلومين!!.. أعلماء وفقهاء هم، أم هم أوتاد وخشب مسندة يرتكن اليها الباغون!!

إن كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، ما دام في الأمة جياع!

وستكوى ظهورهم وجنوبهم في نار جهنم بما يكنزون من ذهب وفضة، كما أنذرهم الله تعالى في كتابه الكريم!!. والعلماء والفقهاء الذين يزينون لهم سيرتهم على أي نحو من الأنحاء، وحتى الذين يسكتون على هذا المنكر، إنما هم جميعا شياطين خرس، سيعاقبهم الله تعالى عقاب الشياطين يوم يقوم الحساب!!

إن من هؤلاء الفقهاء والعلماء من يضلل الناس عن الحقيقة جهلا منه أو غفلة أو رياء للحكام. إنهم ليحببون الفقر لعامة المسلمين، وإنهم ليعظون عامة المسلمين ألا يفكروا في غير ذكر الله، عسى أن تطمئن قلوبهم.. ولكن ما جوى ذكر الله إذا لم يعمل بهذا الذكر، إذا كنت تأكل الحرام؟!.. إن من آكلي الحرام من يستطيع أن يذكر الله ضعاف أضعاف غيره من المشغولين بالسعي في طلب الرزق!!.. ولكن ذكر الله ليس من يتحرك به لسانك، وإنما هو عمل الصالحات!..

ولقد طاف رجل على فقهاء بغداد يسألهم واحدا بعد الآخر: «بم تلين القلوب؟» قالوا: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».. ثم لقي أحمد بن حنبل فسأله، فقال أحمد: «بأكل الحلال». فعاد الرجال يطوف بهم جميعا ويذكر لهم جواب أحمد.. وكأنه نبههم من غفلة، وفتح عيونهم على الحقيقة فقالوا: «جاءك بالجوهر.. الأصل كما قال».

ألف الناس أن يسألوا أحمد بن حنبل كلما لقوه، فيجيبهم بعد التروي، وكثيرا ما كان يقول: «لا أدري»..

وأغراه بعض المعجبين به أن يتخذ له حلقة في الجامع، ويجلس ليعلم الناس ويفتيهم، فيصير إماما.. ولكنه تحرج.. فقد كان يرى أنه يجب ألا يجلس للفتوى والتدريس حتى يبلغ الأربعين.. أي في سن النبوة.. ثم إنه لا يستطيع أن يفتي وبعض اشياخه حي، فالشافعي أستاذه ما يزال حيا بمصر!..

وأمر آخر: إنه يريد قبل أن يجلس للفتوى وللتدريس، وأن يفرغ من تنسيق الأحاديث التي جمعها في رحلاته البعيدة المضنية، يريد أن يسند الأحاديث الى رواتها من الصحابة ويخض كل واحد منهم مسندا.. وعمل كبير كهذا يقتضيه الإعتزال في بيته..

وبدأ يعتكف ليجمع مسنده، ويمحص ما فيه من الأحاديث. وعاتبه بعض الذين ألفوا لقاءه، فطلب منهم أن يتركوه ليعمل ما هو أجدى من غشيان مجالس ليس فيها غير أحاديث يثرثر بها قوم ألفوا السكوت على الباطل وظلم العباد..

كان قد بدأ يدون (المسند) منذ بدء عنايته بالحديث وقد تعين عليه الآن أن يجمع شتات ما كتب، وأن يسطر على الورق كل ما حظ، وأن ينظر في هذه الأحاديث مع إمعان النظر في نصوص القرآن، ليحسن استنباط الأحكام.

وجمع (المسن) في كتب متفرقة، وظل يعمل فيه إلى آخر أيام حياته، لينسقه ابنه ويصنفه من بعده.

وكان أحمد يكتب في مسنده كل ما يحفظه من أحاديث.. وقد قال هو فيما بعد لابنه عبدالله الذي روى فقهه وبوب مسنده، بعد أن سأله عبد الله عن حديث جاء في المسند، رويت بخلافه أحاديث أخرى، قال أحمد لابنه: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طرقتي في الحديث.. لست أخالف ما ضعف من الحديث هذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.

وقد لاحظ ابن الجوزي أن بعض فقهاء الحنابلة يما بعد قد اعتبروا كل ما جاء في المسند من أحاديث صحاحا على الرغم من تنبيه أحمد بن حنبل نفسه.

حزن ابن الجوزي لهذا، وكتب: «قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روي. والبكاء يجب أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلابالله.»

أصبح أحمد بن حنبل وما في بغداد أحفظ منه للحديث، ولا أعمق مه بصرا بآثار الصحابة وفتاواهم، فضلا عن فقهه بعلوم القرآن.

وشهد شيوخ بغداد بفضله وعلمه وتقواه، وجدارته بالتدريس والإفتاء.

وهاهو ذا يبلغ الأربعين، وقد مات الإمام الشافعي، ووجب على أحمد أن يتخذ له حلقة للتدريس والإفتاء بالمسجد الجامع ببغداد.

وحددوا موعدا لحلقته بعد صلاة العصر كما فعل الإمام أبو حنيفة من أكثر من خمسين عاما..

استقر لأحمد بن حنبل الآن منهج في استنباط الأحكام، خالف فيه أبا حنيفة ومالكا بمن أنس. وتابع فيه أستاذه الشافعي. وإذن فقد أصبح أحمد ابن حنبل إماما..

وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل.

وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل.

وفي هذه الحلقات علم الناس أن من روى حديثا صحيحا ولم يعمل به، فقد نافق!

وفي هذه الحلقات تفجر فقهه أصولا وفروعا.. وأجاب على آلاف المسائل.. وازداد شهرة، وتزاحم الناس على حلقاته، وتركوا حلقات الفقهاء الآخرين، حيث وجده الناس غزير العلم، حسن الرأي، حلو الحديث، رفيق الذوق، كثير الحلم، جميل المعشر.. وجدوه حيا بالفقراء من طلاب العلم، بسواد الناس يقربهم ويهش لهم..

وقد جر عليه هذا كثيرا من العناء! فق نفس عليه بعض فقهاء بغداد، وتبدل في قلوبهم إعجابه به، ورضاهم عنه، لتشتعل الغيرة منه.

ثم إن طلاب العلم تابعوه الى بيته، ولم يتركوا له وقتا للراحة أو العمل.. وعاتبه أحد أصدقائه لأنه لم يعد يلقاه كما ألف من قبل فقال له: «إن لي أحباء هم أقرب إلي ممن ألقاهم في كل يوم، لا ألقاهم مرة في العام.»

أسرف عليه طلاب العلم ومحبوه، فأزعجوه، وما كان له حجاب ينظمون مواعيد الناس، كما كان للإمام مالك والإمام الليث من قبل، وما كان يستطيع أن يمتنع عن لقاء زواره إذا كان يعمل أو يستريح في بيته كما تعود مالك والشافعي.. وأثقل عليه أصحاب المسائل، وطلاب مودته، فخشي أن يفتن بنفسه، أ» يدهمه الغرور والكبر والزهو أو المراءاة وشكا همه الى الله تعالى، وتمنى عليه لو أهمل ذكره، أو ألقى به في شعب من شعاب مكة حيث لا يعرفه أحد..!

ما كان للناس يتركونه ليستريح، والحياء بعد يمنعه من صدهم.

ولاحظ أن في حلقاته من يكتب إجاباته وفقهه، فنهاه فما كان يحب كتابة الفقه.. وسأله سائل: لم تنهي عن كتابة الفقه وابن المبارك الذي نعرف موقعه منك كتب فقه أهل الرأي في العراق؟» أجاب: «ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقد أمرنا أن نأخذ العلم من فوق.» (أي من القرآن والسنة).

ذلك أن الإمام أحمد كان يخشى إذا دون الفقه أن تتجمد الأحكام، ويشيع التقليد فيما يأتي من العصور، والفقه ينبغي أن يتجدد بالضرورة وفق مقتضيات الزمان، يضبط هذا كله ما جاءت به نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، فهي وحدها الجديرة بالتدوين، بوصفها المعيار الموضوعي الثابت، ووعاء الأحكام الشرعية جميعا، إما بظاهر نصوصها، أو بدلالاتها الواضحة أو الخفية، وإما بالقياس على ما في النصوص من أحكام إذا تشابهت العلل والحكم.

وتعود الإمام أحمد في حلقة درسه بعد كل صلاة عصر، أن يفتي الناس وطلاب العلم عما يسألون، وأن يشغل نفسه وأهل الحلقة بما اشتعل به السلف: القرآن وتفسيره.

وكان يعلمهم أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، أو تفسرها الأحاديث الشريفة، وآثار الصحابة الذين تلقوا علهم من الرسول (صلى الله عليه).

فموضوع الدرس إذن هو القرآن واسنة وآثار الصحابة. ثم إنه ليأخذ أهل الحلقة بإتقان اللغة العربية وآدابها وعلومها، ليسهل عليهم فهم القرآن والأحاديث..

أما سائر المعارف التي انتشرت في عصر الإمام أحمد، فما كان ليسمح بطرحها في الحلقة.. وبصفة خاصة الكلام في العقيدة.. وكان المعتزلة قد أحدثوا حركة فكرية عنيفة، وتصدوا للرد على الزنادقة والملحدين بما عرفوا من علوم المنطق والفلسفة، ثم أخذوا منه حين يطرحون هم وغيرهم من المفكرين قضايا الجبر والاختيار، والقضاء والقدر ورؤية الله، وذات الله وصفاته، ووضع القرآن: أمخلوق هو أم قديم؟

ولقد تصاول المفكرون والفقهاء من قبل حول عدد من هذه القضايا مثل الجبر والاختيار، فمنهم من ذهب إلى أن الانسان حر في حدود علم الله وتقديره.

ومنهم من قال بالجبر، فالإنسان في كل افعاله مجبر فهو مسير لا اختيار له.

ومنهم من أنكر هذا كله، وقال بأن الإنسان حر الاختيار، وأن حريته هي مناط التكليف واساس الحساب، فإذا لم يكن الإنسان حرا فعلام يحاسب، وفيما الثواب والعقاب؟!.. إنه لعبث إذن وهو ما يتنزه الله تعالى عنه..

ومنهم من قال إن صفات الله جزء من ذاته العلية.

ومنهم من قال إن ما هو حسي من هذه الأوصاف والصفات يجب أن يؤول عن ظاهر معناه وأطالوا الحوار في اسماء الله تعالى أهي الذات أم صفات غير الذات العلية، وفي كيفية رؤيته يوم القيامة.

والعلم الذي يتناول هذه الأمور جميعا يسمى بعلم الكلام.. وكان علماؤه أشداء في الجدال، متمرسون باساليب الحوار..

إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رفض الحوار، أو التفكير في علم الكلام كله، وحث الناس على الا يتناولوا من أمور الدين إلا ما جرت عليه السنة وآثار الصحابة.. قال: «لا ارى الكلام إلا ما كان في كتاب أو سنة أو حديث عن رسول الله(صلى اله عليه) او عن أصحابه أما غير هذا فإن الكلام يه غير محمود».

رفض أن يطرح في حلقته أمر من العقائد، على الرغم من أن الحياة الفكرية خارج حلقته كانت تضطرب بهذه الأفكار التي تصطرع حولها عقول المفكرين والعلماء والفقهاء. وهو صراع طرح نفسه على مجالس الخلفاء، فشجعوه وأقاموا له ندوات الحوار..

ولقد تلقى الإمام أحمد كتابا من أحد أصحابه يسأله عن مناظرة علماء الكلام، فرد عليه الإمام أحمد: «الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ.»

والحق أن الإمام أحمد بن حنبل كان شديد التمسك بسيرة السلف وآثار الصحابة فيما يمس العبادات والعقائد.

أما أحكام المعاملات فقد تطور بها، وتوسع فيها، ووضع لها من القواعد ما يفتح أبواب الاجتهاد للفقهاء في كل عصر كلما دعت الحاجة. فالرجوع الى الحق فضيلة وهو خير من التمادي في الباطل.

من ذلك أنه أباح كتابة بعض فقهه لمصلحة رآها. وكان يغير آراءه ومواقفه، كلما تبين له وجه أصوب في الأمر.

ومن ذلك أنه غير موقفه من علم الكلام.. إذ تبين له أن لا مصلحة في السكوت عن علم الكلام.. وما كان العصر ليترك مثل الإمام أحمد في صمته عما يثيره المتكلمون، فوجد أن مصلح الشريعة تقتضيه أن يقول آراءه فيما يشغل الحياة الفكرية والفقهية من حوله، فهذا اجدى على الدين من الصمت، والنهي عن الحوار أو التفكير!.

فأعلن آراءه في قضايا الإيمان، والقدر، وأفعال الإنسان، وصفت الله.. ولكنه دعا عددا قليلا من خاصة العلماء والفقهاء وصفو الصحاب ليذيع فيهم هذه الآراء.. ذلك أن حلقته في الجامع كانت قد أصبحت تضم آلافا من طلاب العلم ومحبي آرائه.. وإنه ليخشى أن يتسع الحوار حول العقائد بين هذه الأعداد العديدة من الناس، فيزيغ بصر، أو يضل عقل، أو تتزل قدم بعد ثبوتها، أو يستقر خطأ ما في قلب من يؤهله علمه بعد لبحث أمور العقائد!

قال الإمام أحمد في الحلقة التي يعقدها في داره: «إن الإيمان قول وعمل، وهو يزيد وينقص، زيادته إذا احسنته ونقصانه إذا اساءت. ويخرج الرجل من الإيمان الى الإسلام، فإن تاب رجع الى الايمان. ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من الفرائض جاحدا لها. فإن تركها تهاونا بها وكسلا كان في مشيئة الله. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه»

أما رأي الإمام أحمد في مرتكب الكبيرة فهو ليس كارا، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، وليس معفوا عنه، وإنما عليه أن يتوب، وامره الى اله.. فمن زعم أنه كافر «فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار.».. وقال: لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.

وما كان الإمام أحمد ليجهر بهذه الآراء في حلقته العامة، يسيء فهمها أحد ويجسر الناس على اقتراف الكبائر.. بل خص بآرائه أهل العلم في حلقته الخاصة في داره، حيث الجو الصالح للتفكير والحوار في أمور حرجة كتلك..

وأما عن القضاء والقدر فقد قال: «أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله(صلى الله عليه) ارضا بقضاء الله، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر اله به، وابعد عما نهى عنه، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.» وقال: «الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة.»

أما عن صفت الله وأسمائه مما جاء في القرآن أو السنة، فيرى الإمام أحمد روايتها واتباعها كما جاءت، فلا نقحم عيها ما لا يصلح لضبطها وهو العقل.. فهي أمور اعتقادية ينبغي على المؤمن أن يسلم بها كما هي.. وكذلك رؤية الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء في الأحاديث الشريفة، وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها.

على أن الإمام أحمد يرى في انشغال الفكر بهذه الأمور ترفا يصلح أن يتلهى به الخلفاء والأغنياء في قصورهم! هو ترف يصلح للذين لا يعنيهم العدل، وقد تؤذيهم إقامته. والانشغال بهذا الجدل هو بعد إقصاء للفكر عن شؤون الحياة ومجافاة لمقاصد الشريعة التي تتوخى مصالح العباد.. فالفقيه الحق الفاضل يجب أن يشغل من أمور الدين بما يقيم المجتمع الفاضل الذي أراده الشارع الحكيم أي بما يحقق مصالح الناس.

وإذن فينبغي الا يشغل الفقيه التقي إلا بما يفيد الناس في حياة كل يوم.. إلا بما تحته نفع كما قال الإمام مالك بن أنس من قبل، وكما صنع الأئمة العظام أبو حنيفة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي.

أما ما يعنيه الخلفاء والأمراء والأغنياء من شغل العلماء والفقهاء والمفكرين بغير واقع حياة الناس وصرفهم الى التصارع العقلي في المتاهات، فهذا كله لا جدوى منه، وهو استدراج لهم لينشلوا عن مصالح الأمة، وعن استنباط الأحكام والضوابط التي تكفل هذه المصالح، ليخلص الخلفاء والأمراء الى ما هم فيه من ترف وظلم واستبداد؟! وليظل في الرعية من يبحث عن الطعام وسط المزابل، والرعاة متخمون!!

هكذا كان الإمام أحمد ينظر الى اشتجار الخلاف من حوله في أمور العقائد والى انشغال الفكر بها، وحرص الخلفاء والأمراء على تشجيع الانصراف إليها..

لكأن ولاة الأمور لا يريدون للفقه أن يعنى بأحوال الرعية، وأن يقيم العدل وأن يضع الميزان.. إن هؤلاء الحاكمين ليشجعون الزهاد على تمجيد الفقر، والانصراف عن هموم الحياة، وكأن الإسلام دعوة الى الفقر!.. ثم إنهم في الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم والفكر على الانصراف عن الواقع في ما وراء الواقع.. عن الحياة الى ما قبل الحياة وما بعد الحياة.. فمن بعد ذلك يحاسب الحكام على ما يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون!!؟ ومن ذا الذي يدافع عن العدل والحق ومصالح الناس؟!!

ما كان للفقهاء الابرار الذين وقفوا جهودهم على خدمة الشريعة أن يقعوا في الفخاخ!!

وهكذا جعل الإمام أحمد كل همه الى ما يفيد الناس.

وفي الحق أن الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علنا، كما فعل من قبله أبو حنيفة الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه.. كل أولئك قد أوغر ضده الصدور.

وكان استنباطه للأحكام والفتاوي يعتمد على نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة وآثارهم، ثم القياس.

قال أحمد عن القياس: «سألت الشافعي عن القياس فقال يصار إليه عند الضرورة».

وهذا هو ما فعله أحمد، فهو لا يلجأ الى القياس إلا إذا لم يجد حكما في نص القرآن أو السنة أو أقوال السلف، والسلف عنده هم الصحابة والتابعون.

فإذا اختلفت أقوال الصحابة اختار أقربها الى نصوص القرآن والسنة.

وإذا اختلفت أقوال التابعين اختار منها ما هو أقرب الى القرآن والسنة أو ما وافق قول الصحابة مجتمعين او اقرب أقوالهم الى النصوص.

وهو على خلاف من سبقوه، يقدم الحديث الضعيف على القياس.. ما دام الحديث قد صح عنده وتأكد أنه غير موضوع..

أما الإجماع فهو يرى أنه لم ينعقد بعد الصحابة.. وقال في ذلك: «ما يدعي الرجل فيه الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا.. ما يدريه؟ فليقل لا نعلم مخالفا». وقال: «قد كذب من ادعى الإجماع». أما الصحابة فهم معروفون بأسمائهم، والعلم بإجماعهم وخلافهم مسيور.

والإمام أحمد يلحق إجمال الصحابة بالسنة، لأنهم لا يجمون إلا على ما علموه علم اليقين عن الرسول (صلى الله عليه) إما رواية عنه، أو اجتهادا منهم أقربهم عليه..

فالإمام أحمد لا ينكر الإجماع بعد الصحابة ولكنه لا يتصور حدوثه.. ولهذا اعتمد على القياس بعد النصوص وآثار الصحابة..

على أنه إذ يعتمد القياس أصلا من أصول فقهه، إنما يفعل ذلك اتباعا للسنة والسلف الصالح.. ويقول: «القياس لا يستغنى، الرسول (صلى الله عليه) أخذ به، وأخذ به الصحابة من بعده.»

ويتسع القياس عن الإمام أحمد أكثر مما يتسع عند غيره من الأئمة، فالقياس عند الإمام أبي حنيفة شيخ فقهاء الرأي وشيخ القياسيين هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاتحاد العلة أو تشابهها. وعلى هذا سار الفقهاء الآخرون حتى الشافعي.

أما الإمام أحمد فلم يقتصر في القياس على علة الحكم وحدها، بل التفت الى الحكمة.

وعلة الحكم هي سببه، أم الحكمة فهي هدفه.. وهي المصلحة التي يريد تحقيقها والمضرة التي يريد تجنبها فعلة الحكم بإفطار المسافر هي السفر، أما الحكم فهي حظ النفس ودفع المشقة.. وأخذا بالحكمة يباح إفطار من كان في عمله مشقة بحيث إذا صام لم يتمكن من العمل..

وعلى هذا النحو من التوسع في القياس الأخذ بالقياس الظاهر والخفي، وبمراعاة الحكمة الى جوار العلة، أدخل الإمام أحمد في أقيسته الأخذ بالمصالح، وهي التي لم يقم على تحريمها أو إباحتها.

والإمام أحمد يأخذ بها قياسا على ورح الشريعة المستوحاة من نصوص الكتاب والسنة، وإن لم تكن قياسا على نص خاص.

ثم إنه أخذ بالاستحسان وهو الحكم في مسألة بغير ما حكم به في نظيرها، رعاية للمصلحة، على خلاف أستاذه الشافعي الذي قال: «الاستحسان تلذذ».

وأخذ الإمام أحمد بالاستصحاب وهو مصاحب الواقع، فما ثبت في الماضي ثابت في الحاضر والمستقبل وقطعا ما لم يوجد ما يغيره دليل.. فما هو مباح يظل مباحا حتى يقوم دليل على الحظر.

كما أخذ بالذرائع وهي الطرق والوسائل المؤدية الى الفعل وتوسع فيها كما لم يتوسع إمام من قبله. فهو يرى أن الطرق لتحقيق المقاصد تابعة لها، فوسائل المحرمات محرمة ووسائل المباحات مباحة كما قال ابن القيم أحد شراحه. والاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة اليه، وإلا فسد عليهم مايرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟.. ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها، علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم بأن حرمها ونهى عنها»..

من أجل ذلك اهتم الإمام أحمد بالباعث على الفعل، وبنتيجة الفعل.. فمن اراد أن يقتل رجلا بسهم ولكنه أخطأه واصاب حية كانت تريد أن تلدغ خصمه فهو آثم عند الله. لأن الباعث على فعله كان شرا وهو نية القتل.. ومن سب آلهة الوثنيين، وكانت نتيجة فعله أن سبوا هم الله ورسوله.. فهو آثم. لأن سبهم الله ورسوله نتيجة لسبه آلهة الوثنيين.

ومهما يكن اعتبار الإمام للذرائع والاستحسان والاستصحاب والمصالح: أأصول مستقلة هي، أم تدخل في باب القياس، فإن اعتماد أحمد على هذه الضوابط قد وسع فقهه، وجعله خصبا، غنيا، متحررا، متجددا أبدا، قادر على مواجهة كل ما تطرحه الحياة على عقول المجتهدين والقضاة، حريصا على مصالح العباد. ويبدو هذا في فروع الإمام أحمد وإجاباته على كثير من المسائل.. وفي كل ما عرف عنه من فتاوي وأحكام..

وآراء الإمام أحمد كانت في أكثرها إجابات عن مسائل، وهي إجابات كان فيها متبعا السنة وفتاوي الصحابة.. والسنة عنده تبيان للقرآن.

وفي مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد، لأنه لم يجد النص الذي يهتدي به، ولكنه لم يكن يسكت، بل يقول فيها كل أوجه الرأي.

على أنه كان أحيانا يقول: «لا أري.. سل غيري».

وقد ذكروا أمامه أن ابن المبارك سئل عن رجل رمى طيرا فوقع في أرض غيره لمن الصيد لصاحب الارض أو للرامي؟ فقال ابن المبارك: «لا أدري». وسئل الإمام أحمد عن رأيه في هذه المسألة: «فأجاب هذه دقيقة.. وما أري فيها».

وسأله رجل: حلفت بيمين ما أري أي شيء هو، فقال: ليت أنك إذا دريت أنت دريت أنا.

وفي اتباع الإمام أحمد للسنة وآثار السلف قال: «ما أجبت في مسالة إلا بحديث من رسول الله(صلى الله عليه) إذا وجدت السبيل إليه، أو عن الصحابة أو التابعين. فإذا وجدت عند رسول الله(صلى الله عليه) لم أعدل به الى غيره. فإذا لم أجد فمن الخلفاء الأربعة الراشدين، فإذا لم أجد فمن أصحاب رسول الله(صلى اله عليه): الأكابر فالأكابر. إن لم أجد فمن التابعين ومن تابعي التابعين. وما بلغني عمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة.»

من أجل ذلك ظل إلى آخر حياته يبحث عن الأحايث والآثار الصحاح من فتاوي الصحابة وأقضيتهم، حتى أحاديث الآحاد، والأحاديث الضعاف، إن ثبت عنده أنها صحيحة غير موضوعة.. والضعاف من الأحاديث في عرف ذلك الزمان، غيرها في عرف أه هذا الزمان. فقد كانت الأحاديث في عصره إما صحاح أو ضعاف.. فقد نفهم نحن أن الضعيف من الحديث هو المكذوب غير الصحيح أو المختلق، أما في عرف السلف فهو الحديث الذي ليس له سند قوي، ومنه الحديث الحسن!..

كان الإمام أحمد إذا لم يجد ما يريد في الحديث، يلجأ الى القياس الذي يصار إليه عند الضرورة مع توسعه فيفهم القياس وتطبيقه. فأخذ بالمصلحة قياسا على مقاصد النصوص وروحها، لا على نص بالذات، وتحرى حكمة النص بدلا من علته فحسب، أو لجا الى الاستحسان، وما الى ذلك من أصول.. وقد سمعه بعض الناس يجادل فقيها آخر في بيته ويقول له: «إيش (أي شيء) أنتم؟ لا الى الحديث تذهبون ولا الى القياس ولا الى استحسان. ما أري إيش أنتم؟»

أعمل الإمام أحمد فكره فاستنبط الأحكام من النصوص والآثار، وعن طريق القياس بمعناه الواسع فحوى المصالح والذرائع والاستصحاب.. ولجأ الى الاستحسان.

وفي الحق أنه كان متشددا في كل ما يتعلق بالعبادات والحدود التي هي قوام الدين، لأنه رأى البدع تسو والناس يترخصون، ويخرجون عن الدين، أما في المعاملات فقد اتخذ فيها مذهبا متحررا ميسرا، لأنه رأى أن الذين يستغلون الناس يضيقون عليهم باسم الدين، ورأى من الزهاد الذين يلبسون الصوف ويسمون أنسهم بالصوفية، والفقراء، من يزين للناس ترك السعي، وحب الفقر، والرضا بالظلم والقعود عن طلب العدل..

وإجابات الإمام أحمد عن المسائل، وفتاواه يظهر فيه تشدده في العبادات والحدود، وتيسيره في المعاملات.

من ذلك أنه عندما فشت الفاحشة في عصره، وشاع الشذوذ الجنسي حتى أصبح أهل الشذوذ يجهرون ويتبجحون، وأصبح لهم شأن في الدولة نشر الإمام أحمد أن الصديق ابا بكر أمر بإحراق أهل الشذوذ، عندما ارسل اليه خالد بن الوليد أنه بعد أن فتح الشام وجد فيها أهل قرية يتقرفون هذا المنكر، فأشار عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بإحراقهم أسوة بقوم لوط.

ومن ذلك أنه رأى الولاة يتقبلون الهدايا، روى أن الرسول (صلى الله عليه) جاءه أحد عماله يحمل مالا كثيرا فاحتجز نصف المال وقال إنه له فقد أهدي اليه، فغضب الرسول (صلى الله عليه) وأخذ المال كله للمسلمين، وحذرهم أن يقبل أّد مهم هدية إن تولى أمرا من أمور المسلمين وتساءل الرسول إن جلس أحدهم في بيت أبيه وأمه أكان يهدى إليه، أم أنه يهدى لأنه تولى أمرا؟ فإن استحل مالا بهذه الطريقة فقد استحق النار..!

وتأسيسا على هذا الأثر أفتى الإمام أحمد أنه لا يحق للقاضي أن يقبل هدية، ولا أي مستخدم في الدولة، ولا لمن يسعى في مصلحة لغيره عند السلطان أو أولي الأمر. وافتى بان من زاد ماله وهو يلي منصبا، وجب على السلطان أن يأخذ نصف ماله فيرده على المسلمين.

ومن ذلك أن الإمام أحمد رأى الناس قد قست قلوبهم، فافتى بأنه لا يحق لأحد أن يحمل حيوانا فوق طاقته، وأن الكلب إذا حضر طعام أحد، فعليه أن يلقي الكلب بشيء منه، وكان الناس قد فهموا منه أن ظل الكلب نجس، فسخر به بعض حساده، وما كان قد قال هذا قط، ولكنه أزرى بالأثرياء وأنكر عليهم أن يطعموا كلبهم أفخر الطعام، وفي الأمة من لا يجد طعامه إلا في المزابل، وقد لايجده حتى في المزابل!! من أجل ذلك شهروا به!

على أن الإمام أحمد نفسه جلس مرة يأكل رغيفا وما لديه طعام غيره، فجاء كلب فبصبص بذنبه.. فالقى إليه الأمام أحمد باللقمة بع اللقمة حتى تقاسما الرغيف!!.. والإمام أحمد يرى في سؤر الكلب نجاسة، على غير ما رآه الإمام مالك الذي اعتمد على آية تحل أكل ما يصيده الكلب، فقال: «أحل لنا صيده فكيف يحرم سؤره؟».. ولكن من رأي الإمام أحمد كرأي غيره من الفقهاء والأئمة إلا الإمام مالك بن أنس أن الكلب إذا لعق الإناء وجب غسله بماء طاهر، سبع مرات عن بعض الائمة، وحتى يطهر عند أحمد وإن بلغت ثماني مرات أولها بالتراب عند الجميع.

ولم يجز أحمد قتل الطير إلا لمصلحة أو لحاجة، ولا دودة القز إلا لاستخراج الحرير. واعتمد الإمام أحمد في هذا على الحديث الذي يحرم قتل العصفور إلا لمصلحة أو لحاجة.

ومن ذلك أن الشرط في العقد الصحيح ما لم يخالف القرآن والسنة، وما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا. وإذن فللزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج غيره. فإن خالف الشرط فسخ العقد ووقع الطلاق. ولها أن تشترط عليه ألا يسافر معها.

ومن ذلك أنه إذا هلك أحد من العطش أو الجوع في بلاد المسلمين، كل أثرياء المسلمين آثمون، وعليهم الدية، وولي الأمر مسؤول وعليه الدية.. وهي دية المقتول عمدا.. نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا.

* من تسبب في القتل قاتل وإن لم يقتل بيده، وإن لم يقصد اقتل.. وقد أخذ هذا الحكم من قضاء للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فقد أدخلت فتاة في ليلة زفافها الى بيتها شابا كانت تعشقه وأخفته، واكتشفه الزوج فقتله، فحكم الإمام على الزوجة الخائنة بالقتل، وعفا عن الزوج لأنه يدافع عن عرضه.

* ومن ذلك أن النية هي التي تكيف العقد وعلى هذا فزواج المحلل باطل.

* يجب نفي أهل الدعارة والمجون والفسق الى مكان يؤمن فيهم شرهم.

* القاعدون عن طلب الرزق اكتفاء بالعبادة، يجب إجبارهم على العمل، لأنهم ياكلون أموال الناس بالباطل، وطلب الزهد فرارا من المشقة إثم، وترك المكاسب مع الحاجة إليها كسل.

* إذا حكم للمدعي بيمينه بشهادة شاه واحد، ثم ثبت كذب الشاهد، فعليه الغرم كله، أي رد ما دفع للمدعي بغير حق، فإن كانا شاهدين تقاسما الغرم.

* لا يجوز الشراء ممن يرخص السلع لينزل الضرر بجاره، وعلى السلطان ان يمنعه من البيع. كذلك يطرد السلطان من السوق كل تاجر يرفع السعر ويضارب فيه.. فإذا تعدد التجار، وجب اقتلاعهم من السوق ومنعهم من التجارة.

* تمنع المضاربة على السعر نزولا أو صعودا لمن لا يريد أن يشتري.

* لا احتكار.. فالمحتكر ملعون.

* يمنع كل بيع فيه شبهة ربا، كالبيع للمدين، كمغالاة بعض التجار في الربح فهو ربا، وتحل مصادرة هذا المال، ورده بيت المال ومنع مقترف هذا العمل من الإتجار.

* أعمال السمسرة غير جائزة. والسلطان مسؤول عن مطاردة السماسرة ورد أموالهم الى المسلمين لأنه مكسب على حساب الغير بغير عمل ففيه شبهة بالقمار.

وما كان الإمام ليحرم أو يحلل صراحة بل كان يتورع عن هذا كغيره من الأئمة السابقين.. ويكتفي بأن يقول «أكره أو أحب» من ذلك أنه سئل عن بيع الماء فقال: «اكرهه».. وهو يريد أنه حرام.. وسئل عن الخمر يستعمل كالخل فقال: لا يعجبني..

* ومن ذلك جواز تحويل الدين وهو استيفاء للحق.. وهي ما تسمى حوالة الحقوق..

* ومن ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل تصرف مباح حتى يثبت دليل المنع.

* ومن ذلك: إذا شك المطلق أنه طلق واحدة أو ثلاثا.. فهي طلقة واحدة لأن الحلال ثابت بالعقد فلا يزول بالشك.

* جواز إجبار المالك على أن يسكن في بيته من لا مأوى له، بأجر المثل، إذا كان في بيته فراغ لا يحتاج إليه. والحكم ينطبق على صاحب الخان (الفندق).

* يجبر أصحاب السلع على بيعها بسعر المثل فإذا امتنعوا، رفعهم السلطان من السوق وصادر أموالهم ورد نصفها الى بيت المال.

* ومن امتنع عن أداء الزكاة، أو ماطل، أو لم يؤدها كاملة أخذت منه قسرا، وصودر ماله ورد نصفه الى بيت المال.

* يمنع تلقي السلع قبل نزولها في الأسواق، لكيلا يتحكم تاجر أو عدد من التجار في السعر.

* من وقع في معصية وعاجل بالتوبة حال تلبسه بها أو بعدها فهو معفو عنه. كمن يغتصب عقارا ثم يقدم ويعترف ويخرج من العقار فهون في حال توبة، فيعفى عنه.

وكان قد صح للإمام أحمد من السنة والآثار عن الشروط في العقود ما لم يبلغ غيره من الأئمة من قبل. ولذلك خالفهم جميعا في الشروط، فأجاز كل شرط في العقد مالم يحرم حلالا أو يحلل حراما.. وتوسع الإمام أحمد في ذلك حتى أجاز شرط الخيار في عقد الزواج. بحيث يكون لأحد الطرفين حق الفسخ بعد مدة معينة فإذا مضت المدة ولم يفسخ، استمر العقد.. وفي رأيه أنه لا دليل من الشرع يمنع هذا الشرط، ثم إن حق الفسخ يمنع الخديعة. فإذا خالف الزوج الشرط فسخ العقد، وبمقتضى رأيه في الشروط أجاز للبائع أن يبيع ويحتفظ بحق الانتفاع مدة معينة، فله أن يشترط الإقامة بسكنه الذي يبيعه مدة معينة. وأجاز اشتراط البائع على المشتري أنه إذا اراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. وأجاز أشتراط البائع على المشتري أنه إذا اراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. وأجاز أن يشترط البائع على المشتري وجوه استعمال موضوع البيع. فقد سئل عن رجل اشترى جارية فاشترط البائع عليه ألا يستخدمها إلا في التسري فحسب، فلا تخدم ولا تقوم بعمل آخر، فقال أحمد: «لا بأس».

* جواز البيع من غير تحديد الثمن، إذا اتفق المتعاقدان على سعر السوق عند التسليم دون مساومة. ويسمى بقطع السعر. وما في الكتاب ولا في السنة ولا في آثار لصحابة ما يحرم هذا، فهو على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.

* يجب التشدد في الطهارة.. فالمضمضمة والإستنشاق من فرائض الوضوء وهي عند غيره من الأئمة سنة.

* من ولي مرا من أمور المسلمين فاحتجب عنهم في داره جاز حرقه.. فقد احتجب سعد بن أبي وقاص وراء الباب عن الناس في قصره وهو أمير الكوفة، فارسل اليه الخليفة عمر بن الخطاب من أحرق عليه قصره.

* للمار بثمر غيره أن يأكل حتى يشبع ما لم يكن على الثمر سور أو حارس.. ولكن لا يجوز للمار أن يحمل من الثمر.

* للرجل ان يشهد على امرأته بالزنا ويقسم اليمين دون حاجة الى أربعة شهداء، إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل اليها ويخرج. وتعاقب الزوجة بحد الزنا.

* للمرأة إذا تزوج عليها زوجها أن تطالبه بمؤخر صداقها وإن لم تطلق.

* البينة التي تثبت الحق لصاحبه ليست محصورة في أشكال او صيغ، بل هي كل ما يبين به الحق من الأمارات والأدلة، فلو تنازع الساكن ومالك المسكن على شيء نفيس مخبأ في المسكن، فالشيء لمن وصفه منهما وصفا دقيقا منضبطا، وإن حلف الآخر وجاء بالشهود.

* لا يتحقق السجود في الصلاة إلا بأن تمس الأنف الأرض، وذلك من تمام شعور العابد بالعبودية (والأرض هي ما يصلي عليه العابد مجردة أو مفروشة).

* تغسل النجاسة بماء طاهر حتى يزول كل آثارها، وأقل ما تغسل به النجاسة سبع مرات. وإذا شك المتوضىء في طهارة الماء، تركه وتيمم.

* السنة في الصلاة أن يخفف الإمام ففلا يطيل رعاية لحال المأمومين، وتكره إمامة من لا يرضى عنه أكثر المصلين.

* الأذان في الصلاة يجب أن يكون باللغة العربية (وقد أجاز غيره من الفقهاء أن يكون بغيرها). وكذلك الصلاة.

* السنة في الصيام هي الفطر في السفر. والفطر في الغزو أحرى. وقد خرج الرسول (صلى اله عليه) للفتح في رمضان، فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته ليراه الناس وقال: «تقووا لأعدائكم»..

* طاعة الوالدين فريضة، وهي جزء من الإيمان، وقد جعلها اله بعد التوحيد، (وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) فمعصية الوالدين أو الإساءة إليهما كالشرك به تعالى، بهذا نزل القرآن وعليه نصت الأحاديث الشريفة ورعاية الأم أولى كما جاء في الحديث. وقد سمع الرسول (صلى الله عليه) قصة زاهد شغلته العبادة عن الرد على أمه وكانت في حاجة إليه، فاصابها اذى، فعقب الرسول على سلوك العابد بأنه لو خرج من صلاته، وأجاب أمه، لكان أحب الى الله تعالى وأقرب. وقد روى الإمام أحمد عن الصحابة والتابعين أنه إذا استأذن ولد والدته للخروج مجاهدا في سبيل اله، فأذنت له، وعلم أن هواها في المقام، فليقم. وقال الإمام أحمد لطالب في حلقته تريده أمه على التجارة، وهو يريد العلم: «دارها وارضها ولا تدع الطلب.»

* يجوز للأب أن يفضل أحد ولده بالهبة إذا كان هذا الولد في حاجة بسبب العجز عن الكسب لانقطاعه للعلم، أو لعاهة به، أو لكثرة عياله.

* الأحكام يجب أن توق بين الظاهر والباطن، فيؤخذ بالظاهر إذا كان الحال في غنى عن البينة لأن الأمارات القوية تؤيده أو كان بينة في ذاته. كأن يظهر الحمل على امرأة ليس لها زوج، أو كأن يشاهد رجل يجري وفي يده عمامة، وعلى رأسه عمامة أخرى، يطارده رجل آخر بلا عمامة!

* لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه، قد يثبت أنه يجافي الحقيقة.

فقد حدث أن جاءت امرأة تخاصم زوجها، فارسلت عينيها وبكت، قال أحد القوم: «مهلا» فإن أخوة يوسف (جاءوا أباهم عشاء يبكون).

وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أمرأة بالمدينة أحبت شابا من الأنصار، ولكنه لم يطعها فيما تريد، فجاءت ببيضة وألقت صفرتها، وسكبت البياض على فخذيها وثوبها، ثم جاءت الى الخليفة عمر صارخة فقالت: «إن ببدنها وثوبها آثار الرجل». فهم بعقوبة الشاب، فأخذ يستغيث ويقول: «يا أمير المؤمنين تثبت في أمري. فواله ما أتيت فاحشة ولا هممت بها، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت». فنظر عمر الى علي بن أبي طالب كرم اله وجهه وقال: «يا ابا الحسن ما ترى في أمرها.» فنظر علي إلى ما على الثوب، ودعا بماء حار شديد الغليان، فصب على الثوب فجمد البياض، وظهرت رائحة البيض، فزجر الخليفة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه المرأة اعترفت، وعاقبها.

ومن رأي الإمام أحمد أنه لا يؤخذ بالظاهر على "طلاقه حتى إذا اعترف المذنب.

وقد روى انه حدث في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اله عنه، أن أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخ بالدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه. فسأله أمير المؤمنين فقال: «أنا قتلته.» فقال: «اذهبوا به فاقتلوه.» فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا، فقال: «يا قوم لا تعجلوا، ردوه الى علي». فردوه. فقال الرجل: «يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه، أنا قتلته» فقال علي للأول: «ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟». قال: «يا أمير المؤمنين، وما استطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأن واقف، وفي يدي سكين وفيها أثر الدم وقد أخذت في خربة؟ فخفت لا يقبل مني، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي لله.» فقال علي: «بئس ما صنعت! فكيف كان حديثك؟». فقال الرجل إنه قصاب ذبح بقر وسلخها، وأخذه البول فأسرع الى الخربة يقضي حاجته والسكين بيده، فرأى القتيل فوقف ينظر اليه فإذا بالشرطة تمسك به. وأما القاتل فاعترف بأن الشيطان زين له أن يذبح القتيل ليسرقه ثم سمع خطو أقدام فاختفى في الظلام، حتى دخل القصاب فأدركه العسس فأمسكوا به. ولما رأى الخليفة امر بقتل القصاب، خشي أن يبوء بدمه فاعترف. وأخلى علي سبيل القاتل لأنه إن كان قد قتل نفسا، فقد أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.» وأخرج الدية من بيت المال.

وكان الإمام يستشهد في أحكامه بالأخبار والقصص، ففيها عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى. وكان يطلب من تلاميذه أن يكثروا من قراءة اقصص ليعتبروا.

ومما رواه من قصص تؤيد رأيه في عدم الأخذ بالظاهر على إطلاقه، أن امرأة في عهد الرسول (صلى الله عليه) اغتصبها رجل وهي في الطريق الى المسجد لصلاة الفجر، استغاثت برجل مر عليها، وفر المغتصب، ومر نفر وهي ما تزال تصرخ فأدركوا الرجل الذي كانت قد استغاثت به، فأخذوه وجاءوا به إليها، فقال الرجل: «أنا الذي أغثتك وقد فر الآخر» فأتوا به رسول الله(صلى الله عليه) أخبرته أنه وقع عليها وشهد عليه القوم. فقال: «إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني». فقالت: «كذب. هو الذي وقع علي». فقال رسول الله: «انطلقوا به فارجموه.» فقام رجل فقال: «لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل». فقال القوم: «يا رسول الله أرجمه» فقال: «لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم».

* يفضل الإمام أحمد للمسلمين أن يغزوا تحت قيادة القوي وإن كان فاجرا، على الضعيف وإن كان صالحا ويقول: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره لنفسه. وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين. فيغزي مع القوي الفاجر جلبا للمصلحة العامة.

* لا يحبس المدين في دين. فلم يحبس رسول الله(صلى الله عليه) رجلا في دين قط، ولا الخلفاء الراشدون من بعده، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الحبس في الدين ظلم». وكذلك لا يحبس الزوج في مؤخر الصداق ولم يحبس الرسول ولا أحد من الخفاء الراشدين زوجا في مؤخر صداق أصلا. ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه) ولا من بعده لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها، كما جاء في رسالة الليث الى مالك. فالأمة مجمعة على أن المرأة لا تطالب به قبل أجله بل هو كسائر الديون المؤجلة فليس لها حق فيه إلا بالموت أو الطلاق أو الزواج بغيرها.. ولا تقوم مصلحة الناس إلا بهذا. ويضيف الإمام أحمد في ذلك: «من حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة (أي مؤخر الصداق)، وحبس الأزواج عليها، حث من الشرور والمفاسد ما الله به عليم وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت، تدعي بصداقها وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت. فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه»..!

* كل أنواع المعاملات مباح إلا ما يحظره نص أو القياس على نص. وكل العقود واجبة الوفاء إلا إذا قام دليل شرعي على المنع. وكل ما احتاج إليه الناس في معايشهم ولم يكن سببه معصية لم يحرم عليهم، لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. ولا يشترط لانعقاد العقد أي شكل أو صيغة بل ينعقد بالنية والإفصاح عنها. وبعض العقود لا يثبت إلا بالكتابة. وقد ينعقد العقد بممارسة الفعل أو بما يقتضيه العرف كالعقد مع صاحب الخان (الفندق) أو صاحب الحمام، ينعقد بدخول المكان ورضا صاحبه. وأكثر تصرفات التجارة قائم على العرف. ولكن النية والقبول يجب ألا يعيب أيهما شيء، فاساس المعاملات الرضا، وكل ما يشوب الرضا يفسد التعاقد إكراها كان أم خديعة أم غشا أم تدليسا أم غبنا.

وقد حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن تزوج شيخ كبير يخضب بالسواد بفتاة شابة حسناء وبعد حين ظهر البياض على شعر الزوج ولحيته، فكرهته العروس وقالت إنها خدعت بشبابه.. وما هو بشاب. وشكاه أهلها الى عمر قائلين: «حسبناه شابا». فضربه عمر ضربا موجعا وقال له: «غرت بالقوم». وفرق بينهما.

* الغاية ترتبط بالوسيلة المؤدية إليها، وترتبط المقدمة بالنتيجة، فما هو سبيل الى المباح مباح، وما هو وسيلة الى المحظور محظور، وإذا فسدت إحداهما فسدت الأخرى، فإثبات الحق مباح بل هو مطلوب، على ألا تكون الوسيلة محظورة كشهادة الزور.

وتستثنى من القاعدة حالات الضرورة أو الحاجة.. فيجوز للطبيب الاطلاع على عورة المريضة لعلاجها وإنقاذ حياتها.

* من الواجب توفير كل ما فيه صلاح الناس، وفتح الطريق للتوبة وإصلاح ذات البين وصيانة كيان الأسرة.

وروى أحمد: «جاءت الى علي بن أبي طالب امرأة فقالت: «إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري». قال للرجل: «ما تقول؟». قال: «ما وقت عليها إلا بأمرها». فقال: «إن كنت صادقة رجمته (بالزنا) وإن كنت كاذبة جلدتك الحد (للقذف). و«أقيمت الصلاة فقام أمير المؤمنين علي يصلي. وفكرت امرأة فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها، ولا في أن تجلد ولت هاربة. ولم يسأل عنها أمير المؤمنين».

وقد قيل للإمام أحمد «فلان يشرب». فقال: «هو أعلمكم شرب أم لم يشرب». وقال عن جماعة من العلماء يشربون النبيذ: «تلك سقطاتها لكنها لا تذهب حسناتهم».

* على القادر أن ينفق على كل ذوي الأرحام الف
Ardalsharq.com 2000-2003
webmaster@ardalsharq.com
Tel: 20124501559