صدقة جارية
تفسير اية رقم ٤_١٢
من سورة الإنسان
﴿إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ سَلَـٰسِلَا۟ وَأَغۡلَـٰلࣰا وَسَعِیرًا (٤) إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ یُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِیرࣰا (٦) یُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَیَخَافُونَ یَوۡمࣰا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِیرࣰا (٧) وَیُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِینࣰا وَیَتِیمࣰا وَأَسِیرًا (٨) إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِیدُ مِنكُمۡ جَزَاۤءࣰ وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا یَوۡمًا عَبُوسࣰا قَمۡطَرِیرࣰا (١٠) فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَ ٰلِكَ ٱلۡیَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةࣰ وَسُرُورࣰا (١١) وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُوا۟ جَنَّةࣰ وَحَرِیرࣰا (١٢)﴾ [الإنسان ٤-١٢]
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَرْصَدَهُ لِلْكَافِرِينَ مِنْ خَلْقِهِ بِهِ مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ، وَهُوَ اللَّهَبُ وَالْحَرِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ: ﴿إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غَافِرٍ: ٧١، ٧٢] .وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ(١) لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ.قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي مُزج لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مَزْجٍ ويَرْوَوْنَ بِهَا؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَ يشرَب "يَرْوَى" حَتَّى عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَنَصَبَ ﴿عَيْنًا﴾ عَلَى التَّمْيِيزِ.قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ(٢) فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ عَيْنٍ كَافُورٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ ﴿يَشْرَبُ﴾ حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابنُ جَرِيرٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا، مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ.وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الْإِنْبَاعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] . وَقَالَ: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الْكَهْفِ: ٣٣] .وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ يَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ أَيْ: يَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ [فِعْلِ](٣) الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ النذر.قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعصي اللَّهَ فَلَا يَعصِه"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ(٤) .وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي شَرُهُ مُسْتَطِيرٌ، أَيْ: مُنْتَشِرٌ عَامٌّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشِيًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ -وَاللَّهِ-شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلأ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ وَاسْتَطَالَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت فِي الفُؤا ... دِ صَدْعًا، عَلَى نَأيها مُستَطيرًا(٥)يَعْنِي: مُمْتَدًّا فَاشِيًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ قِيلَ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَعَلُوا الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢] .وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا -أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ-فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ -يَعْنِي امْرَأَتَهُ-فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا بِدِرْهَمٍ، فَاتَّبَعَ الرسولَ السَّائِلُ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا فَاتَّبَعَ الرسولَ السائلُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ عُدتَ لَا تصيبُ مِنْهُ خَيْرًا أَبَدًا. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ بِهِ(٦) .وَفِي الصَّحِيحِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ"(٧) أَيْ: فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا. وَأَمَّا الْأَسِيرُ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أُسَرَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الْأُسَارَى، فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْغَدَاءِ، وَهَكَذَا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.وَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حَدِيثٍ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَى أَنْ جَعَلَ يَقُولُ: "الصلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"(٨) .وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ -وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ-لِعُمُومِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ.قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَحْبُوسُ، أَيْ: يُطْعِمُونَ لِهَؤُلَاءِ الطَّعَامَ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ أَيْ: رجاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكُمْ مُجَازَاةً تُكَافِئُونَا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ.قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ.﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ أَيْ: إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ، فِي الْيَوْمِ الْعَبُوسِ الْقَمْطَرِيرِ.قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿عَبُوسًا﴾ ضَيِّقًا، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ طَوِيلًا.وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ أَيْ: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَق مِثْلُ القَطرَان.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿عَبُوسًا﴾ الْعَابِسُ الشَّفَتَيْنِ، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ قَالَ: تَقْبِيضُ الوَجه بالبُسُور.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْهَوْلِ، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ تَقْلِيصُ الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، مِنَ الْهَوْلِ.وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعُبُوسُ: الشَّرُّ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ.وَأَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا، وَأَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا -قولُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ: الشَّدِيدُ؛ يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُماطِر، وَيَوْمٌ عَصِيب وعَصَبْصَب، وَقَدِ اقْمَطَرَّ اليومُ يَقْمَطِرُّ اقْمِطْرَارًا، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهَا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:بنَي عَمّنا، هَلْ تَذكُرونَ بَلاءنَا ؟ ... عَلَيكم إذَا مَا كانَ يومُ قُمَاطرُ(٩)قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّجَانُسِ الْبَلِيغِ، ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ أَيْ: آمَنَهُمْ مِمَّا خَافُوا مِنْهُ، ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ أَيْ: فِي وُجُوهِهِمْ، ﴿وَسُرُورًا﴾ أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ. قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عَبَسَ: ٣٨، ٣٩] . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الْوَجْهُ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا سُرَّ، اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ(١٠) قَمَر(١١) وَقَالَتْ عائشةُ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَسْرُورًا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه(١٢) . الْحَدِيثَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ ونَوّلهم وَبَوَّأَهُمْ ﴿جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ أَيْ: مَنْزِلًا رَحْبًا، وَعَيْشًا رَغَدًا(١٣) وَلِبَاسًا حَسَنًا.وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدّارَاني قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ سُورَةُ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ﴾ فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ قَالَ بِمَا صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَنْشَدَ:كَم قَتيل بشَهوةٍ وَأَسِيرٌ ... أُفٍّ مِنْ مُشتَهِي خِلاف الجَميل ...شَهوَاتُ الإنْسان تُوْرِثُهُ الذُّل ... وَتُلْقيه فِي البَلاء الطَّويل(١٤)
(١) في أ: "أعده الله".
(٢) في م: "الطعام".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) صحيح البخاري برقم (٦٦٩٦، ٦٧٠٠) .
(٥) تفسير الطبري (٢٩/١٢٩) .
(٦) السنن الكبرى للبيهقي (٤/١٨٥) .
(٧) صحيح مسلم برقم (١٠٣٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) رواه أحمد في المسند (١/٧٨) من حديث على رضي الله عنه.
(٩) البيت في تفسير الطبري (٢٩/١٣١) غير منسوب.
(١٠) في م: "كأنه فلقة".
(١١) حديث توبه كعب بن مالك في صحيح البخاري برقم (٣٩٥١، ٤٦٧٣) ، وفي صحيح مسلم برقم (٢٧٦٩) ، وتقدم عند تفسير الآية: ١١٨ من سورة "التوبة".
(١٢) حديث عائشة في لحاق أسامة بأبيه زيد. رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٥٥٥) ، ومسلم في صحيحه برقم (١٤٥٩) .
(١٣) في م: "رغيدا".
(١٤) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٧/٨٦) ووقع صدره فيه:
كم قتيل لشهوة وأسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق