صدقة جارية
تفسير اية رقم ١٨
من سورة الكهف
﴿وَتَحۡسَبُهُمۡ أَیۡقَاظࣰا وَهُمۡ رُقُودࣱۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡیَمِینِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَـٰسِطࣱ ذِرَاعَیۡهِ بِٱلۡوَصِیدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَیۡهِمۡ لَوَلَّیۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارࣰا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبࣰا﴾ [الكهف ١٨]
ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، لَمْ تَنْطَبِقْ(١) أَعْيُنُهُمْ؛ لِئَلَّا(٢) يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْبِلَى، فَإِذَا بَقِيَتْ ظَاهِرَةً لِلْهَوَاءِ كَانَ أَبْقَى لَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الذِّئْبِ أَنَّهُ يَنَامُ فَيُطْبِقُ عَيْنًا وَيَفْتَحُ عَيْنًا، ثُمَّ يَفْتَحُ هَذِهِ وَيُطْبِقُ هذه وهو راقد، كما قال الشاعر(٣) يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي ... بأخْرَى الرَّزَايَا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ ...
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُقَلَّبُونَ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُقَلَّبُوا(٤) لَأَكْلَتْهُمُ الْأَرْضُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ(٥) الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْبَابِ. وَقِيلَ: بِالصَّعِيدِ، وَهُوَ التُّرَابُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِالْفِنَاءِ، وَهُوَ الْبَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ [الْهُمَزَةِ: ٨] أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ. وَيُقَالُ: "وَصِيد" وَ "أَصِيدٌ".رَبَضَ كَلْبُهُمْ عَلَى الْبَابِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْكِلَابِ.قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ(٦) يَحْرُسُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ. وَهَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، حَيْثُ يَرْبِضُ(٧) بِبَابِهِمْ كَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ -كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ(٨) -وَلَا صُورَةٌ وَلَا جُنُب وَلَا كَافِرٌ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ(٩) وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ.وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ لِأَحَدِهِمْ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَقِيلَ: كَانَ كَلْبَ طَبَّاخِ الْمَلِكِ، وَقَدْ كَانَ وَافَقَهُمْ عَلَى الدِّينِ فَصَحِبَهُ كَلْبُهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "هَمَّامِ بْنِ الْوَلِيدِ الدِّمَشْقِيِّ": حَدَّثَنَا صَدَقَة بْنُ عُمَرَ الغَسَّاني، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ المِنْقَري، سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: كَانَ اسْمَ كَبْشِ إِبْرَاهِيمَ: جَرِيرٌ وَاسْمَ هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ: عَنْقَز، وَاسْمَ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قِطْمِيرٌ، وَاسْمَ عِجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي عَبَدُوهُ: بَهْمُوتُ. وَهَبَطَ آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ بِدَسْتَ بَيْسَانَ، وَالْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ(١٠)وَقَدْ تَقَدَّمَ(١١) عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ سَمَّاهُ: حِمْرَانَ.وَاخْتَلَفُوا فِي لَوْنِهِ(١٢) عَلَى أَقْوَالٍ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، بَلْ هِيَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَهَا رَجْمٌ بالغيب.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ؛ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ(١٣) يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَتَنْقَضِيَ رَقْدَتُهُمُ الَّتِي شَاءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحُجَّةِ وَالْحِكْمَةِ(١٤) الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ.
(١) في ت: "تطبق".
(٢) في ت: "كيلا".
(٣) هو حميد بن ثور، والبيت في ديوانه (ص١٠٤) أ. هـ مستفادا من حاشية ط الشعب.
(٤) في ت: "تتقلبون"، وفي أ: "يتقلبوا".
(٥) في ف: "ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ".
(٦) في أ: "جرير".
(٧) في ف: "ربض".
(٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٢٢٧) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
(٩) رواه أحمد في مسنده (١/٨٠) وأبو داود في السنن برقم (٢٢٧) والنسائي في السنن (١/١٤١) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب".
(١٠) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٧/١٤٣) .
(١١) في ت: "وقيل".
(١٢) في ت: "كونه".
(١٣) في أ: "أو يمسهم".
(١٤) في ف: " الحكمة والحجة ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق