الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٣_١٧
من سورة إبراهيم 
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ (١٣) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِی وَخَافَ وَعِیدِ (١٤) وَٱسۡتَفۡتَحُوا۟ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِیدࣲ (١٥) مِّن وَرَاۤىِٕهِۦ جَهَنَّمُ وَیُسۡقَىٰ مِن مَّاۤءࣲ صَدِیدࣲ (١٦) یَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا یَكَادُ یُسِیغُهُۥ وَیَأۡتِیهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَمَا هُوَ بِمَیِّتࣲۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِۦ عَذَابٌ غَلِیظࣱ (١٧)﴾ [إبراهيم ١٣-١٧]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَوَعَّدَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ رُسُلَهُمْ، مِنَ الْإِخْرَاجِ مَنْ أَرْضِهِمْ، وَالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ٨٨] ، وَقَالَ قَوْمُ لُوطٍ: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٥٦] ، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٧٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٠] .وَكَانَ(١) مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ أَظْهَرَ رَسُولَهُ وَنَصَرَهُ، وَجَعَلَ لَهُ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَجُنْدًا، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّيهِ [اللَّهُ](٢) تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، حَتَّى فَتَحَ لَهُ مَكَّةَ الَّتِي أَخْرَجَتْهُ، وَمَكَّنَ لَهُ فِيهَا، وَأَرْغَمَ آنَافَ أَعْدَائِهِ مِنْهُمْ، و [مِنْ](٣) سَائِرِ [أَهْلِ](٤) الْأَرْضِ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَدِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي أَيْسَرِ زَمَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٧١ -١٧٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ(٥) عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] ، وَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] ، ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢٨] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٣٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أَيْ: وَعِيدِي(٦) هَذَا لِمَنْ خَافَ مَقَامِي بَيْنَ يَدَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَخَشِيَ مِنْ وَعِيدِي، وَهُوَ تَخْوِيفِي وَعَذَابِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النَّازِعَاتِ: ٣٧ -٤١] ، وَقَالَ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ أَيِ: اسْتَنْصَرَتِ الرُّسُلُ رَبَّهَا عَلَى قَوْمِهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: اسْتَفْتَحَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنْفُسِهَا، كَمَا قَالُوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] .وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا وَهَذَا مُرَادًا، كَمَا أَنَّهُمُ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاسْتَفْتَحَ رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَنْصَرَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: ١٩] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أَيْ: مُتَجَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ [ق: ٢٤ -٢٦] .وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّهُ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُنَادِي الْخَلَائِقَ فَتَقُولُ: إِنِّي وُكلت بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" الْحَدِيثَ(٧) .خَابَ وَخَسِرَ حِينَ اجْتَهَدَ الْأَنْبِيَاءَ فِي الِابْتِهَالِ إِلَى رَبِّهَا الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ وَ"وراء" ها هنا بِمَعْنَى "أَمَامُ"، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الْكَهْفِ: ٧٩] ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا "وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ".أَيْ: مِنْ وَرَاءِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ جَهَنَّمُ، أَيْ: هِيَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ، يَسْكُنُهَا مُخَلَّدًا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَيُعْرَضُ عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد.﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ أَيْ: فِي النَّارِ لَيْسَ لَهُ شَرَابٌ إِلَّا مِنْ حَمِيمٍ أَوْ غَسَّاقٍ، فَهَذَا(٨) فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَرْدِ وَالنَّتَنِ، كَمَا قَالَ: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص: ٥٧، ٥٨] .وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ: الصَّدِيدُ: مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ.وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الصَّدِيدُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ الْكَافِرِ، قَدْ خَالَطَ الْقَيْحَ وَالدَّمَ.وَمِنْ حَدِيثِ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ"(٩) وَفِي رِوَايَةٍ: "عُصَارة أَهْلِ النَّارِ"(١٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُرْ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ﴾ قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى(١١) ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٥] ، وَيَقُولُ: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ﴾(١٢) [الْكَهْفِ: ٢٩] .وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ(١٣) وَرَوَاهُ هُوَ وابن أبي حاتم: من حديث بَقِيَّة ابن الْوَلِيدِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ(١٤) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ أَيْ: يَتَغَصَّصُهُ وَيَتَكَرَّهُهُ، أَيْ: يَشْرَبُهُ قَهْرًا وَقَسْرًا، لَا يَضَعُهُ فِي فِيهِ(١٥) حَتَّى يَضْرِبَهُ الْمَلَكُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الْحَجِّ: ٢١] .﴿وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أَيْ: يَزْدَرِدُهُ لِسُوءِ لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ، وَحَرَارَتِهِ أَوْ بَرْدِهِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ.﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ أَيْ: يَأْلَمُ لَهُ جَمِيعُ بَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ.قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان: مِنْ كُلِّ عَظْمٍ، وَعِرْقٍ، وَعَصَبٍ.وَقَالَ عكرمة: حتى من أطراف شعره.وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مِنْ مَوْضِعِ كُلِّ شَعْرَةٍ، أَيْ: مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ وَوَرَائِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ(١٦) وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِ(١٧) وَمِنْ سَائِرِ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ قَالَ: أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَيْسَ مِنْهَا نَوْعٌ إِلَّا الْمَوْتُ يَأْتِيهِ مِنْهُ لَوْ كَانَ يَمُوتُ، وَلَكِنْ لَا يَمُوتُ؛ لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ](١٨) ﴾ [فَاطِرٍ: ٣٦] .وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ [هَذَا](١٩) الْعَذَابِ إِلَّا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ اقْتَضَى أَنْ يَمُوتَ مِنْهُ لَوْ كَانَ يَمُوتُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمُوتُ لِيَخْلُدَ فِي دَوَامِ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أَيْ: وَلَهُ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْحَالِ عَذَابٌ آخَرُ غَلِيظٌ، أَيْ: مُؤْلِمٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ أَغْلَظُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٦٤ -٦٨] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَارَةً يَكُونُونَ فِي أَكْلِ زَقُّومٍ، وَتَارَةً فِي شُرْبِ حَمِيمٍ، وَتَارَةً يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيمِ(٢٠) عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٤٣، ٤٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ [الدُّخَانِ: ٤٣ -٥٠] ، وَقَالَ: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٤١ -٤٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص: ٥٥ -٥٨] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنَوُّعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْرَارِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَشْكَالِهِ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، جَزَاءً وِفَاقًا، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٦] .

(١) في ت، أ: "فكان".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "لقوى" وهو خطأ.
(٦) في ت: "وعدى".
(٧) رواه أحمد في المسند (٣/٤٠) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٥٧٤) مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح".
(٨) في ت، أ: "فهذا حار".
(٩) رواه أحمد في المسند (٦/٤٦٠) .
(١٠) وهي رواية أبي ذر، رضي الله عنه، رواها أحمد في المسند (٥/١٧١) .
(١١) في أ: "عز وجل".
(١٢) المسند (٥/٢٦٥) .
(١٣) تفسير الطبري (١٦/٥٤٩) ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٥٨٣) من طريق عبد الله بن المبارك به، وقال: "هذا حديث غريب، وهكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث".
(١٤) ورواه الطبري في تفسيره (١٦/٥٥١) من طريق حيوة بن شريح عن بقية به.
(١٥) في ت: "لا يضعه في فمه" وفي أ: "لا يضيعه في فمه".
(١٦) في ت: "فوقهم".
(١٧) في ت: "أرجلهم".
(١٨) زيادة من أ.
(١٩) زيادة من ت، أ.
(٢٠) في ت: "جحيم".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩
من سورة إبراهيم 
﴿أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَقَالُوۤا۟ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ﴾ [إبراهيم ٩]

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا مِنْ تَمَامِ قِيلِ(١) موسى لقومه(٢) .يعني: وتذكاره إِيَّاهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، بِانْتِقَامِهِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ.وَفِيمَا قَالَ(٣) ابْنُ جَرِيرٍ نَظَرٌ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأمة، فإنه قد قيل: إِنَّ قِصَّةَ عَادٍ وَثَمُودَ لَيْسَتْ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِقَوْمِهِ وقَصَه عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ(٤) أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الْقِصَّتَانِ فِي "التَّوْرَاةِ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، مِمَّا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ(٥) إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ: بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ الْبَاهِرَاتِ الْقَاطِعَاتِ.وَقَالَ ابْنُ(٦) إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ﴾ كَذَبَ النَّسَّابُونَ.وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَعْدَ مَعَدِ بْنِ عَدْنَانَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ يَأْمُرُونَهُمْ(٧) بِالسُّكُوتِ عَنْهُمْ، لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.وَقِيلَ: بَلْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ تَكْذِيبًا لَهُمْ.وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُكُوتِهِمْ عَنْ جَوَابِ الرُّسُلِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَوْجِيهُهُ(٨) أَنَّ "فِي" ها هنا بِمَعْنَى "الْبَاءِ"، قَالَ: وَقَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: "أَدْخَلَكَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ" يَعْنُونَ: فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه ... عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب ...يُرِيدُ: أَرْغَبُ بِهَا(٩) .قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْكَلَامِ: ﴿وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ فَكَأَنَّ هَذَا [وَاللَّهُ أَعْلَمُ](١٠) تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى رَدِّ أَيْدِيهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ.وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ قَالَ: عَضُّوا عَلَيْهَا غَيْظًا.وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَبِي هُبَيرَْة ابْنِ مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا. وَقَدِ اخْتَارَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُخْتَارًا لَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٩] .وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا سُمِعُوا كِتَابَ(١١) اللَّهِ عَجبوا، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.وَقَالُوا: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ يَقُولُونَ: لَا نُصَدِّقُكُمْ فِيمَا جِئْتُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ عِنْدَنَا فِيهِ شَكًّا قَوِيًّا.

(١) في أ: "قول".
(٢) تفسير الطبري (١٦/٥٢٩) .
(٣) في ت، أ: "قاله".
(٤) في ت، أ: "لأوشك".
(٥) في ت، أ: "عدده".
(٦) في ت: "أبو".
(٧) في ت: "يأمروهم".
(٨) في ت: "ويوجهه"
(٩) تفسير الطبري (١٦/٥٣٤) .
(١٠) زيادة من ت، أ.
(١١) في ت: "كلام".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 6 نوفمبر 2024

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٣
من سورة إبراهيم 
﴿الۤرۚ كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ (١) ٱللَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡ عَذَابࣲ شَدِیدٍ (٢) ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ (٣)﴾ [إبراهيم ١-٣]

تَفْسِيرُ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُوَهِيَ مَكِّيَّةٌ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ.﴿كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، عَلَى أَشْرَفِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، إِلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ(١) .﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا بَعَثْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا الْكِتَابِ؛ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ إِلَى الْهُدَى وَالرُّشْدِ، كَمَا قَالَ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الْحَدِيدِ: ٩] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: هُوَ الْهَادِي لِمَنْ قَدر لَهُ الْهِدَايَةَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ الْمَبْعُوثِ عَنْ أَمْرِهِ يُهْدِيهِمْ ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ﴾ أَيِ: الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، "الْحَمِيدُ" أَيِ: الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ مُسْتَأْنَفًا مَرْفُوعًا، وَقَرَأَهُ آخَرُونَ عَلَى الْإِتْبَاعِ صِفَةً لِلْجَلَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ خَالَفُوكَ يَا مُحَمَّدُ وَكَذَّبُوكَ.ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، أَيْ: يُقَدِّمُونَهَا ويُؤثرونها عَلَيْهَا، وَيَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا ونَسُوا الْآخِرَةَ، وَتَرَكُوهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وَهِيَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أَيْ: وَيُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا مَائِلَةً عَائِلَةً(٢) وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ فِي نَفْسِهَا، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا، فَهُمْ(٣) فِي ابْتِغَائِهِمْ ذَلِكَ فِي جَهْلٍ وَضَلَالٍ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ، لَا يُرْجَى لَهُمْ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ -صَلَاحٌ.

(١) في ت، أ: "عربيهم وعجميهم".
(٢) عائلة: أي جائزة.
(٣) في ت: "ففهم".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 28 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٨_٣٩
من سورة الرعد 
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلࣰا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣰا وَذُرِّیَّةࣰۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن یَأۡتِیَ بِـَٔایَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلࣲ كِتَابࣱ (٣٨) یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ (٣٩)﴾ [الرعد ٣٨-٣٩]

يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ، يَا مُحَمَّدُ، رَسُولًا بَشَرِيًّا(١) كَذَلِكَ [قَدْ](٢) بَعَثْنَا الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذَرِّيَّةً، وَقَدْ قَالَ [اللَّهُ](٣) تَعَالَى لِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِهِمْ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الْكَهْفِ: ١١٠] .وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَآكُلُ الدَّسَمَ(٤) وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".(٥)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: التَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْحِنَّاءُ"(٦) .وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيع عَنْ حَفْصِ بْنِ غِياث، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبَى الشِّمَالِ(٧) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. . . فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَذْكَرْ فِيهِ أَبُو الشَّمَالِ(٨)(٩) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَأْتِي قومَه بِخَارِقٍ إِلَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ بِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الْحَجِّ: ٧٠](١٠) .وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ يَعْنِي(١١) لِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ، فَلِهَذَا يَمْحُو(١٢) مَا يَشَاءُ مِنْهَا وَيُثْبِتُ، يَعْنِي حَتَّى نُسِخَتْ كُلُّهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.وقوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُمَا.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ.وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ. فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُّخَانِ: ٣، ٤] قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنة مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا(١٣) يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا(١٤) يَشَاءُ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاوَةِ(١٥) وَالسَّعَادَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغير(١٦) .وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيق بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ(١٧) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ(١٨) عِصْمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدي؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً.(١٩)وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الحذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا.وَرَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِمَثَلِهِ.وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حَدَّثَنَا خِصَافٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَنْبَأْتُكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(٢٠) .وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ(٢١) بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبه، وَلَا يَرُدُّ القَدَر إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ".وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ(٢٢) .وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ(٢٣) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ(٢٤) بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"(٢٥) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَان مِنْ يَاقُوتٍ -وَالدَّفَّتَانِ: لَوْحَانِ -لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ [كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ](٢٦) وَسِتُّونَ لَحْظَةً، يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.(٢٧)وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي، عَنْ فُضَالة بْنِ عُبَيد، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " [إن الله](٢٨) يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهَا يَنْظُرُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.(٢٩)وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَيَزِيدُ فِيهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. ثُمَّ سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يُكْتَبُ الْقَوْلُ كُلُّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسَ، طُرِحَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، مِثْلَ قَوْلِكَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ، دَخَلْتُ وَخَرَجْتُ وَنَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُثْبَتُ مَا كَانَ فِيهِ الثَّوَابُ، وَعَلَيْهِ الْعِقَابُ.(٣٠)وَقَالَ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ كِتَابَانِ: فَكُتَّابٌ يَمْحُو اللَّهُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يقول: هو الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو -وَالَّذِي يُثْبِتُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ.وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير: أَنَّهَا بِمَعْنَى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٤] .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ يَقُولُ: يُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبَدِّلُهُ، ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يَقُولُ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَمَا يُبَدِّلُ، وَمَا يُثْبِتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.وَقَالَ قتادة في قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٠٦]وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ حِينَ أُنْزِلَتْ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ مَا نَرَاكَ يَا مُحَمَّدُ تَمْلِكُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَقَدْ فُرغ مِنَ الْأَمْرِ. فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا، وَوَعِيدًا لَهُمْ: إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِنَا مَا شِئْنَا، وَنُحْدِثُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَنَمْحُو وَنُثْبِتُ(٣١) مَا نَشَاءُ مِنْ أَرْزَاقِ النَّاسِ وَمَصَائِبِهِمْ، وَمَا نُعْطِيهِمْ، وَمَا نَقْسِمُ لَهُمْ.وَقَالَ الحسن البصري: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ قَالَ: مَنْ جَاءَ أَجْلُهُ، فَذَهَب، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى أَجْلِهِ.وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ.وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: كِتَابٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.وَقَالَ سُنَيد بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَيَّار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ "أُمِّ الْكِتَابِ"، فَقَالَ: عَلِم اللَّهُ، مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمَا خَلْقُه عَامِلُونَ، ثُمَّ قَالَ(٣٢) لِعِلْمِهِ: "كُنْ كِتَابًا". فَكَانَا(٣٣) كِتَابًا.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قال: الذكر، [والله أعلم] .(٣٤)

(١) في أ: "بشرا".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت، أ: "اللحم".
(٥) صحيح البخاري برقم (٥٠٦٣) وصحيح مسلم برقم (١٤٠١) وليس فيهما: "وآكل الدسم".
(٦) المسند (٥/٤٢١) .
(٧) في أ: "أبي السماك".
(٨) في أ: "أبو السماك".
(٩) سنن الترمذي برقم (١٠٨٠) .
(١٠) في ت، أ: "السموات" وهو خطأ.
(١١) في ت، أ: "بمعنى".
(١٢) في ت: "يمحى".
(١٣) في ت: "من".
(١٤) في ت: "من".
(١٥) في ت: "الشقاء".
(١٦) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٠) .
(١٧) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨١) .
(١٨) في أ: "أبي حكيم".
(١٩) تفسير الطبري (١٦/٤٨١) .
(٢٠) تفسير الطبري (١٦/٤٨٤) .
(٢١) في أ: "الأقوال".
(٢٢) المسند (٥/٢٢٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٠) .
(٢٣) صحيح مسلم برقم (٢٥٥٧) من حديث أنس ولفظه: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه".
(٢٤) في ت، أ: "ليتعلجان".
(٢٥) لم أعثر عليه بهذا اللفظ.
(٢٦) زيادة من تفسير الطبري، ومكانه في هـ، ت، أ: "ثلاث".
(٢٧) تفسير الطبري (١٦/٤٨٩) .
(٢٨) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٢٩) تفسير الطبري (١٦/٤٨٨) .
(٣٠) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٤) .
(٣١) في ت، أ: "فيمحو ويثبت".
(٣٢) في ت، أ: "فقال".
(٣٣) في ت، أ: "فكان".
(٣٤) زيادة من أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 19 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٨_٩
من سورة الرعد 
﴿ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ (٨) عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ (٩)﴾ [الرعد ٨-٩]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا تَحْمِلُهُ الْحَوَامِلُ مِنْ كُلِّ إِنَاثِ الْحَيَوَانَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ﴾ [لُقْمَانَ: ٣٤] أَيْ: مَا حَمَلَتْ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، أَوْ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، أَوْ طَوِيلِ الْعُمُرِ أَوْ قَصِيرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النَّجْمِ: ٣٢] .وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾ [الزُّمَرِ:٦] أَيْ: خَلَقَكُمْ طَوْرًا مِنْ بَعْدِ طَوْرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢: ١٤] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(١) صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتب رِزْقَهُ، وَعُمُرَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشِقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ"(٢) .وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "فَيَقُولُ الْمَلَكُ: أيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ"(٣) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْن، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا(٤) إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تقوم الساعة إلا الله"(٥) .وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ﴾ يَعْنِي: السَقْط ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ يَقُولُ: مَا زَادَتِ الرَّحِمَ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا. وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشْرَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَزِيدُ فِي الْحَمْلِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْقُصُ، فَذَلِكَ الْغَيْضُ(٦) وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى.وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ: مَا نَقَصَتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ، وَوَلَدَتْنِي وَقَدْ نَبَتَتْ ثنيَّتي.وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، قَدْرَ مَا يَتَحَرَّكُ ظِل مغْزَل.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ: مَا تَرَى مِنَ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا، وَمَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَبِهِ قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ دُونَ التِّسْعَةِ زَادَ عَلَى التِّسْعَةِ، مِثْلَ أَيَّامِ الْحَيْضِ. وَقَالَهُ عِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ﴾ إِرَاقَةُ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَخِسَّ الْوَلَدُ ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ إِنْ لَمْ تُهْرِقِ الْمَرْأَةُ تَمَّ الْوَلَدُ وَعَظُمَ.وَقَالَ مَكْحُولٌ: الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَطْلُبُ، وَلَا يَحْزَنُ وَلَا يَغْتَمُّ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا(٧) فَمِنْ ثَمَّ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ. فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَهَلَّ، وَاسْتِهْلَالُهُ اسْتِنْكَارٌ(٨) لِمَكَانِهِ، فَإِذَا قُطِعَتْ سُرَّتُهُ حَوَّلَ اللَّهُ رِزْقَهُ إِلَى ثَدْيَيْ أُمِّهِ حَتَّى لَا يَطْلُبَ وَلَا يَحْزَنَ وَلَا يَغْتَمَّ، ثُمَّ يَصِيرُ طِفْلًا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ بِكَفِّهِ فَيَأْكُلُهُ، فَإِذَا هُوَ بَلَغَ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ، أنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ فَيَقُولُ مَكْحُولٌ: يَا وَيْلَكَ(٩) ! غَذاك وَأَنْتَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَدْتَ وَعَقَلْتَ قُلْتَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ، أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ ثُمَّ قَرَأَ مَكْحُولٌ: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أَيْ: بِأَجْلٍ، حَفِظَ أَرْزَاقَ خَلْقِهِ وَآجَالَهُمْ، وَجَعَلَ لِذَلِكَ أَجَلًا مَعْلُومًا.وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ ﷺ بَعَثَتْ إِلَيْهِ: أَنَّ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَقُولُ: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرُوهَا فَلْتَصْبِرْ وَلِتَحْتَسِبْ" الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ(١٠)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا يَغِيبُ عَنْهُمْ، وَلَا يَخْفَى(١١) عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. ﴿الْكَبِيرُ﴾ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ﴿الْمُتَعَالِ﴾ أَيْ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، فَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَ لَهُ الْعِبَادُ، طَوْعًا وَكَرْهًا.

(١) في ت: "النبي".
(٢) صحيح البخاري برقم (٣٢٠٨) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٣) .
(٣) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٦٤٥) من حديث حذيفة بن أسيد، رضي الله عنه.
(٤) في ت: "لا يعلمهن".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٧) .
(٦) في ت: "الغيظ".
(٧) في ت: "حيضها".
(٨) في ت: "استشكار".
(٩) في ت: "يا ويحك".
(١٠) زيادة من ت.
(١١) في ت: "لا يخفى".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٧
من سورة الرعد 
﴿الۤمۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِۗ وَٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ (١) ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ (٤) ۞ وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبࣱ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَ ٰ⁠بًا أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡأَغۡلَـٰلُ فِیۤ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ (٥) وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّیِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَـٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةࣲ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ (٦) وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۤۗ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُنذِرࣱۖ وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ (٧)﴾ [الرعد ١-٧]

﴿المر﴾ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنا الله أعلم وأرى ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ﴾ أي: تلك الآيات التي في هذه السورة آيات القرآن، ﴿والّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾: القرآن كله، ﴿الحَقُّ﴾ لا هذه السورة وحدها وهو خبر والذي ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لما فيهم من العناد، ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ أي: أساطين جمع عماد أو عمود ﴿تَرَوْنَها﴾، صفة لـ عمد، وعن بعض السلف أن لها عمدًا ولكن لا ترى، أو استئناف للاستشهاد لرؤيتهم للسماوات كذلك فضمير المؤنث حينئذ للسماوات ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾، قال السلف: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وقيل: علا عليه ﴿وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ ذللهما لما أراد منهما ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مسَمًّى﴾ أي: لدرجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها، أو إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا ﴿يدَبِّرُ الأمْرَ﴾: جميع أمور ملكوته ﴿يُفَصِّلُ الآياتِ﴾: يوضحها، وينزلها مفصلة ﴿لَعَلَّكم بِلِقاءِ رَبِّكم تُوقِنُونَ﴾: لكي تتفكروا فيها فتعلموا كمال قدرته بحيث لا يعجز عن الإعادة والجزاء ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾: بسطها، ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾: جبالًا ثوابت ﴿وأنهارًا﴾: ضمها مع الجبال فإنها تخرج من الجبال أكثرها ﴿ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾، ظرف لقوله: ﴿جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي: صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوًا وحامضًا قيل: أول ما خلق العالم خلق من كل نوع من الأشجار اثنين فقط كما خلق الإنسان من زوجين ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾: يلبسه مكانه فيصير مظلمًا بعدما كان مضيئًا، ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾: فيما فيها من الصنائع والبدائع، ﴿وفِي الأرْضِ قِطَعٌ متَجاوِراتٌ﴾: بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة صلبة إلى رخوة ومن غير ذلك وهي دالة على قدرته واختياره ﴿وجَنّاتٌ﴾: بساتين، ﴿مِّنْ أعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوانٌ﴾ هي: نخلة لها رأسان وأصلهما واحد ﴿وغَيْرُ صِنْوان﴾: مختلفة الأصول ﴿يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ﴾: في الثمر طعمًا وشكلًا، ورائحة وقدرًا مع أنها تستمد من طبيعة واحدة وهي الماء، بل وبعضها من أصل واحد فسبحانه من قادر ومختار ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾: يستعملون عقولهم، ﴿وإن تَعْجَبْ﴾: يا محمد من إنكارهم النشأة الآخرة، ﴿فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ أي: فعجبت في موضعه حقيق بأن تتعجب، أو أن تعجب من تكذيبهم إياك، بعد ما حكموا بصدقك فاعجب من قولهم أو إن تعجب من شيء فاعجب من قولهم: ﴿أإذا كُنّا تُرابًا﴾ مرفوع بأنه بدل من قولهم أو منصوب به وإذ نصب بما دل عليه قوله: ﴿أئنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾: هم الكاملون في الكفر ﴿وأُوْلَئِكَ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾: يوم القيامة يسحبون بها في النار، ﴿وأُوْلَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ﴾: بالعقوبة، ﴿قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ أي: العافية سألوا نزول العذاب استهزاء أو يطلبون النقمة لا النعمة كقولهم: ﴿عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ﴾ ﴿وقَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ﴾: عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ﴾ أي: لذو إمهال وستر ﴿عَلى ظُلْمِهِمْ﴾: على كفرهم ومعاصيهم، وإن فسرت المغفرة بالعفو فعلى ظلمهم حال ولابد أن يفسر الظلم بمعاصي غير الكفر، ولا يناسب المقام فإنه إن فسرت بما يعمه فلا يخفى أن العفو من غير توبة فلا يصح بمذهب، وإن كان بعد التوبة فلا يلائم، لأنّهُم بعد التوبة ليسوا على الظلم ﴿وإنّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾: لمن شاء ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا﴾: هلا، ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾، لم يعتدوا بالآيات الباهرات واقترحوا مثل ما أوتي موسى وعيسى، ﴿إنَّما أنتَ مُنذِرٌ﴾: لا عليك الإتيان بما اقترحوا كجعل الصفا ذهبًا ﴿ولِكُل قَوْمٍ هادٍ﴾: نبي مخصوص يدعوهم إلى الهدى، أو معناه أنت منذر ولكل قوم هاد يهديهم إذا أراد، وهو الله، وعن بعض السلف الهادي علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - وأيضًا في ذلك حديث؛ لكن قيل فيه نكارة شديدة.

(جامع البيان للإيجي — الإيجي (٩٠٥ هـ))

الخميس، 17 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦من
سورة الرعد 
﴿وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّیِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَـٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةࣲ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [الرعد ٦]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾(١) أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ ﴿بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ أَيْ: بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ﴾ [الْحِجْرِ:٦ -٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٣، ٥٤] وَقَالَ: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [الْمَعَارِجِ: ١] وَقَالَ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشُّورَى: ١٨] ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: ١٦] أَيْ: حِسَابَنَا وَعِقَابَنَا، كَمَا قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] فَكَانُوا(٢) يَطْلُبُونَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾ أَيْ: قَدْ أَوْقَعْنَا نِقْمَتَنَا بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَجَعَلْنَاهُمْ مُثْلَةً وَعِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ.ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْلَا حلمه وعفوه [وغفره](٣) لعالجهم بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٤٥](٤) .وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ أَيْ: إِنَّهُ ذُو عَفْوٍ وَصَفْحٍ(٥) وَسَتْرٍ لِلنَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ وَيُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ثُمَّ قَرَنَ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِيَعْتَدِلَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤٧] وَقَالَ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٦٧] وَقَالَ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ﴾ [الْحِجْرِ:٤٩، ٥٠] إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّب قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْلَا عفوُ اللَّهِ وتجاوُزه، مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ(٦) وَلَوْلَا وَعِيدُهُ(٧) وَعِقَابُهُ، لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ"(٨) .وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ أَبِي حَسَّانَ الزِّيَادَيِّ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ فِي النَّوْمِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يُشَفَّعُ فِي رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكْفِكَ أَنِّي أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ ؟ قَالَ: ثُمَّ انْتَبَهْتُ.(٩)

(١) في ت، أ: "ويستعجلك" وهو خطأ.
(٢) في ت: "وكانوا".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "الناس بظلمهم" وهو خطأ.
(٥) في ت: "ذو صفح وغفر".
(٦) في ت: "العريش".
(٧) في ت: "وعده".
(٨) ورواه الواحدي في الوسيط (٣/٦) من طريق محمد بن أيوب، عن موسى بن إسماعيل، به مرسلا.
(٩) تاريخ دمشق (٤/٤٧١) "المخطوط") .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥ من سورة الرعد 
﴿۞ وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبࣱ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَ ٰ⁠بًا أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡأَغۡلَـٰلُ فِیۤ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [الرعد ٥]

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ﴾ مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْرِ الْمَعَادِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَدَلَالَاتِهِ فِي خَلْقِهِ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمَعَ مَا يَعْتَرِفُونَ(١) بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَكَوَّنَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا يُكَذِّبُونَ خَبَرَهُ فِي أَنَّهُ سَيُعِيدُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا وَشَاهَدُوا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا كَذَّبُوا بِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وَقَدْ عَلِمَ كل عالم وعاقل أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مَنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَنْ بَدَأَ الْخَلْقَ فَالْإِعَادَةُ سَهْلَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ثُمَّ نَعَتَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ أَيْ: يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيْ: مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ.

(١) في ت، أ: "يعرفون".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣_٤
من سورة الرعد 
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ (٤)﴾ [الرعد ٣-٤]

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ أَيْ: جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بِجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ شَامِخَاتٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْجَدَاوِلَ وَالْعُيُونَ لِسَقْيِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ.﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أَيْ: جَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا(١) يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشيه هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الْآخَرُ، فَيَتَصَرَّفُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ كَمَا تَصَرَّفَ فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ.﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ: فِي آلَاءِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ(٢) وَدَلَائِلِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ أَيْ: أراضٍ تُجَاوِرُ(٣) بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَهَذِهِ سَبَخة مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرِهِمْ.وَكَذَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ(٤) وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ مُرَمَّلَةٌ، وَهَذِهِ سَمِيكَةٌ، وَهَذِهِ رَقِيقَةٌ، وَالْكُلُّ مُتَجَاوِرَاتٌ. فَهَذِهِ بِصِفَتِهَا، وَهَذِهِ بِصِفَتِهَا الْأُخْرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾(٥) يُحْتَمَلُ(٦) أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى ﴿جَنَّاتٍ﴾ فَيَكُونُ ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾(٧) مَرْفُوعَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا؛ وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ الصِّنْوَانُ: هِيَ الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ، كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: مَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَمِنْهُ سُمِّي عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِعُمَرَ: "أَمَّا شَعَرْتَ(٨) أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ "(٩) .وَقَالَ سفيان الثوري، وشعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصِّنْوَانُ: هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: الْمُتَفَرِّقَاتُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ: "الدَّقَل وَالْفَارِسِيُّ، والحُلْو وَالْحَامِضُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ(١٠) .أَيْ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ، فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، وَأَوْرَاقِهَا وَأَزْهَارِهَا.فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا(١١) فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا(١٢) جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ(١٣) مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾

(١) في ت: "منها".
(٢) في ت، أ: "وحكمه".
(٣) في ت: "يجاورها".
(٤) في ت: "محجر".
(٥) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٦) في ت: "تحتمل".
(٧) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٨) في أ: "أما علمت".
(٩) رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٨٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(١٠) سنن الترمذي برقم (٣١١٨) . والدقل: الرديء واليابس من التمر. والفارسي: نوع من التمر.
(١١) في ت: "وهذا".
(١٢) في ت، أ: "وهذا قد جمع".
(١٣) في ت: "تستمد".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 11 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢
من سورة الرعد 
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد ٢]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ: أَنَّهُ الَّذِي بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عمَد، بَلْ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ(١) وَتَسْخِيرِهِ رَفَعَهَا عَنِ الْأَرْضِ بُعدًا لَا تُنَالُ ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بِجَمِيعِ الْأَرْضِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَجِهَاتِهَا(٢) وَأَرْجَائِهَا، مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَبُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةِ مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامِ، وَسُمْكُهَا فِي نَفْسِهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ. ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُحِيطَةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمَا حَوَتْ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهَا مِنَ الْبُعْدِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّالِثَةُ مُحِيطَةٌ(٣) بِالثَّانِيَةِ، بِمَا فِيهَا، وَبَيْنَهَا(٤) وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَا الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ](٥) تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: ١٢] وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا السماواتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلاة، وَالْكُرْسِيِّ فِي الْعَرْشِ كَتِلْكَ(٦) الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ(٧) وَفِي رِوَايَةٍ: "وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ: قَالُوا: لَهَا عَمَد وَلَكِنْ لَا تُرَى.وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، يَعْنِي بِلَا عَمَدٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [الْحَجِّ: ٦٥] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿تَرَوْنَهَا﴾ تَأْكِيدًا لِنَفْي ذَلِكَ، أَيْ: هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا تَرَوْنَهَا. هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ فِي الْقُدْرَةِ. وَفِي شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الَّذِي آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ(٨) وَيُرْوَى لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ:وأنتَ الَّذِي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة ... بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا ...فقلت له: فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا ... إِلَى اللَّهِ فرْعَونَ الَّذِي كانَ طَاغيا ...وَقُولا لَهُ: هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه ... بِلَا [وتَد حَتَّى اطْمَأَنَّتْ(٩) كَمَا هِيَاوقُولا له: أأنتَ رَفَّعتَ هَذه ... بلا](١٠) عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا؟ ...وَقُولا لَه: هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا ... مُنيرًا إِذَا مَا جَنَّك الليَّل هاديا وقُولا لَهُ: مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً ... فيُصبحَ مَا مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا؟ ...وَقُولا لَهُ: مَن يُنْبِت الحَبَّ فِي الثَّرَى ... فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا؟ ...وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه فِي رُءُوسِهِ ... فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا(١١)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ"(١٢) وَأَنَّهُ يُمَرَّر(١٣) كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ إِلَى انْقِطَاعِهِمَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٨] .وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمَا، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي بَطْنَ الْأَرْضِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُمَا وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ إِذَا وَصَلُوا هُنَالِكَ، يَكُونُونَ أَبْعَدَ مَا يَكُونُ(١٤) عَنِ الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي تقومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، قُبَّةٌ مِمَّا يَلِي الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ بِمُحِيطٍ كَسَائِرِ الْأَفْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ(١٥) لَهُ قَوَائِمُ وَحَمَلَةٌ يَحْمِلُونَهُ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّر مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ السَّبْعَةِ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ.مِنَ الثَّوَابِتِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ سَخَّرَ هَذِهِ، فَلأن يُدْخُلُ فِي التَّسْخِيرِ سائرُ الْكَوَاكِبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا نَبَّهَ(١٦) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٧] مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ(١٧) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أَيْ: يُوَضِّحُ(١٨) الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ إِذَا شَاءَ كَمَا ابْتَدَأَ خَلْقَهُ.

(١) في ت، أ: "بل بأمره وبإذنه".
(٢) في ت، أ: "جهاتها ونواحيها".
(٣) في ت: "تحيط".
(٤) في أ: "بينهما".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "كمثل".
(٧) سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية: ٢٥٥ من سورة البقرة.
(٨) رواه ابن عبد البر في التمهيد (٤/٧) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أمية بن أبي الصلت: "آمن شعره وكفر قلبه؟ " قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟ . . . الحديث.
(٩) في ت أ: "استقلت"، والمثبت من سيرة ابن هشام.
(١٠) زيادة من ت، أ، وسيرة ابن هشام.
(١١) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨) .
(١٢) انظر: تفسير الآية: ٥٤.
(١٣) في ت: "يمر".
(١٤) في ت، أ: "ما يكون".
(١٥) في ت، أ: "لآن".
(١٦) في ت: "بينه".
(١٧) في ت: "في قوله".
(١٨) في ت، أ: "نوضح".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 7 أكتوبر 2024

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١١
من سورة يوسف 
﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [يوسف ١١١]

يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي خَبَرِ الْمُرْسَلِينَ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَكَيْفَ أَنْجَيْنَا(١) الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَكْنَا الْكَافِرِينَ ﴿عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ﴾ وَهِيَ الْعُقُولُ، ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ أَيْ: وَمَا كَانَ لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: يُكَذَّبَ ويُختلق، ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَهُوَ يُصَدِّقُ مَا فِيهَا مِنَ الصَّحِيحِ، وَيَنْفِي مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ تَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ وَتَغْيِيرٍ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهَا بِالنَّسَخِ أَوِ التَّقْرِيرِ، ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَمَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَعَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُجْمَلَةِ وَالتَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلِهَذَا كَانَ: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ تَهْتَدِي بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى السَّدَادِ، وَيَبْتَغُونَ بِهِ الرَّحْمَةَ مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْمَعَادِ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَوْمَ يَفُوزُ بِالرِّبْحِ المُبْيَضَّة وُجُوهُهُمُ النَّاضِرَةُ، وَيَرْجِعُ(٢) المسودَّة وجوهُهم بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ.آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(١) في ت، أ: "نجينا".
(٢) في ت: "وترجع".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة يوسف

🎉‏صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٩
من سورة يوسف 
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰۤۗ أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يوسف ١٠٩]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أرسلَ رسُلَه مِنَ الرِّجَالِ لَا مِنَ النِّسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوحِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ بَنِي آدَمَ وَحي تَشْرِيعٍ.وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ سَارَّةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ، وَأُمَّ مُوسَى، وَمَرْيَمَ أَمَّ عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بَشَّرَتْ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الْآيَةَ. [الْقَصَصِ: ٧] ، وَبِأَنَّ الْمَلَكَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ فَبَشَّرَهَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢، ٤٣] .وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُنَّ نَبِيَّاتٍ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِنُبُوَّتِهِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّشْرِيفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا؟ الَّذِي عَلَيْهِ [أَئِمَّةُ](١) أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِنَّ صِدِّيقَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَشْرَفِهِنَّ مريمَ بِنْتِ عِمْرَانَ حَيْثُ قَالَ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٥] فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ، فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾(٢) أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ الْآيَةَ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨، ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَحْقَافِ: ٩] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الْمُرَادُ بِالْقُرَى: الْمُدُنُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي، الَّذِينَ هُمْ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعًا وَأَخْلَاقًا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ أَهْلَ الْمُدُنِ أَرَقُّ طِبَاعًا، وَأَلْطَفُ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَأَهْلُ الرِّيفِ وَالسَّوَادِ أَقْرَبُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي الْبَوَادِي؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٩٧] .وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مَنْ أَهْلَ الْعَمُودِ.وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَاقَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِيهِ وَيَزِيدُهُ حَتَّى رَضِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ، أَوْ دَوْسِي".(٣)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ [ابْنُ](٤) عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".(٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ﴾ [يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ،](٦) ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦] ، فَإِذَا اسْتَمَعُوا(٧) خَبَرَ ذَلِكَ، رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾(٨) أَيْ: وَكَمَا أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٠، ٥١] .وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ كَمَا يُقَالُ: "صَلَاةُ الْأُولَى" وَ"مَسْجِدُ الْجَامِعِ" وَ"عَامُ الْأَوَّلِ" وَ "بَارِحَةُ الْأُولَى" وَ"يَوْمُ الْخَمِيسِ". قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ(٩) عَبْسًا ... أَلَا لِلَّهِ أمَّكَ مِنْ هَجين ...وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ ... عَرَفْتَ الذُّلَّ عرْفانَ اليَقين(١٠)

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في ت: "يوحى".
(٣) رواه أحمد في المسند (١/٢٩٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٤) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٥) المسند (٢/٤٣) .
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت، أ: "استعملوا".
(٨) في ت، أ: "يتقون" وهو خطأ.
(٩) في ت: "وتمدح".
(١٠) البيتان في تفسير الطبري (١٦/٢٩٥) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 5 أكتوبر 2024

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٠
من سورة يوسف 
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا ٱسۡتَیۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَاۤءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّیَ مَن نَّشَاۤءُۖ وَلَا یُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ [يوسف ١١٠]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رُسُلِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] ، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿كُذِبُوا﴾ قِرَاءَتَانِ، إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ: "قَدْ كُذِّبُوا"، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقْرَؤُهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ:حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد، بن صالح، عن ابن شهاب قال: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ قَالَ: قُلْتُ: أكُذِبوا أَمْ كُذِّبوا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبوا. فَقُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبوهم فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلْ، لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهَا: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ(١) مَعَاذَ اللَّهِ، لَمْ تَكُنِ(٢) الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ، ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كذَّبوهم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ.حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَة، فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا قَدْ كُذِبوا مُخَفَّفَةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ.(٣)وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبَى مُلَيْكة: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ خَفِيفَةً -قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُلَيْكة: ثُمَّ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بَشَرًا(٤) وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: مَا وَعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَتَّى مَاتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كذَّبوهم. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَؤُهَا "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا" مُثْقَلَةً، لِلتَّكْذِيبِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ(٥) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ فَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبِرْهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ تَقُولُ: كَذَّبَتْهُمْ أَتْبَاعُهُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ مُخَفَّفَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي تَكْرَهُ.(٦)وَهَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ آخَرُونَ عَنْهُمَا. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جَاءَهُمُ النَّصْرُ عَلَى ذَلِكَ، ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾(٧)وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعلي بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَارِمٌ(٨) أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ(٩) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرة(١٠) الجزرِيّ قَالَ: سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ، فَإِنِّي إِذَا أَتَيْتُ عَلَيْهِ تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدِّقوهم، وَظَنَّ المرسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبوا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ! لَوْ رَحَلْتُ فِي هَذِهِ إِلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا.ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَار سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَقَالَ: فرَّج اللَّهُ عَنْكَ كَمَا فَرجت عَنِّي.وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدُ بْنُ جَبْر، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، حَتَّى إِنَّ مُجَاهِدًا قَرَأَهَا: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا"، بِفَتْحِ الذَّالِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ مَنْ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ يُعِيدُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ إِلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُهُ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ: وَظَنَّ الْكُفَّارُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذبوا -مُخَفَّفَةً -فِيمَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ.وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ(١١) عَنْ جَحش(١٢) بْنِ زِيَادٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَم قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ(١٣) وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا، بِالتَّخْفِيفِ.(١٤)فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ كُلٍّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَ الْمَشْهُورَ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الْآخَرَ بِالْكُلِّيَّةِ، وردَّهُ وأبَاه، وَلَمْ يَقْبَلْهُ وَلَا ارْتَضَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(١٥)

(١) في ت، أ: "فقالت".
(٢) في ت: "يكن".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٥، ٤٦٩٦) .
(٤) في أ: "بشروا".
(٥) في ت، أ: "يقرأ".
(٦) في أ: "يكره".
(٧) في ت: "فننجي".
(٨) في ت: "غارم".
(٩) في أ: "شعبة".
(١٠) في ت، أ: "أبي حمزة".
(١١) في أ: "فضل".
(١٢) في ت، أ: "محسن".
(١٣) في ت، أ: "لهم".
(١٤) في ت، أ: "مخففة".
(١٥) انظر ما قالته عائشة في: تفسير الطبري (١٦/٣٠٧، ٣٠٨) ورد الطبري لقول ابن عباس (١٦/٣٠٦) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠١
من سورة يوسف 
﴿۞ رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِیِّۦ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ [يوسف ١٠١]

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ﴾قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكنه في الأرض، متشوِّقًا إلى لقاء آبائه الصالحين: ﴿رب قد آتيتني من الملك﴾ ، يعني: من ملك مصر = ﴿وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ ، يعني من عبارة الرؤيا،(١) تعديدًا لنعم الله عليه، وشكرًا له عليها = ﴿فاطر السموات والأرض﴾ ، يقول: يا فاطر السموات والأرض، يا خالقها وبارئها(٢) = ﴿أنت وليي في الدنيا والآخرة﴾ ، يقول: أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك، وتغذوني فيها بنعمتك، وتليني في الآخرة بفضلك ورحمتك. ((٣) توفني مسلمًا) ، يقول: اقبضني إليك مسلمًا(٤) . ﴿وألحقني بالصالحين﴾ ، يقول: وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك.
* * *وقيل: إنه لم يتمن أحدٌ من الأنبياء الموتَ قبل يوسف.
* ذكر من قال ذلك:١٩٩٤٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ ، الآية، كان ابن عباس يقول:(٥) أول نبي سأل الله الموت يوسف.١٩٩٤١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: ﴿رب قد آتيتني من الملك﴾ ... ، الآية، قال: اشتاق إلى لقاء ربه، وأحبَّ أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفَّاه ويُلْحِقه بهم. ولم يسأل نبيّ قطّ الموتَ غير يوسف، فقال: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) ، الآية = قال ابن جريج: في بعض القرآن من الأنبياء(٦) :"توفني"(٧)١٩٩٤٢ -حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين﴾ ، لما جَمَع شمله، وأقرَّ عينه، وهو يومئذ مغموس في نَبْت الدنيا وملكها وغَضَارتها،(٨) فاشتاق إلى الصالحين قبله. وكان ابن عباس يقول: ما تمنى نبي قطّ الموت قبل يوسف.١٩٩٤٣ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، قال: لما جمع ليوسف شمله، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربّه فقال: ﴿رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين﴾ = قال قتادة: ولم يتمنَّ الموت أحد قطُّ، نبي ولا غيره إلا يوسف.١٩٩٤٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني غير واحد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أن يوسف النبي ﷺ، لما جمع بينه وبين أبيه وإخوته، وهو يومئذ ملك مصر، اشتاق إلى الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق، فقال: ﴿رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين.﴾١٩٩٤٥ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ﴿وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ ، قال: العِبَارة.١٩٩٤٦ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين﴾ ، يقول: توفني على طاعتك، واغفر لي إذا توفَّيتني.١٩٩٤٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته حين جمع الله له شمله، وردَّه على والده، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة: ﴿يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًّا﴾ ، إلى قوله: ﴿إنه هو العليم الحكيم﴾ . ثم ارعوى يوسف، وذكر أنّ ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب، فقال: ﴿رب قد قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين﴾ .
* * *وذُكِر أن بَني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا، استغفر لهم أبوهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم
* ذكر من قال ذلك:١٩٩٤٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن صالح المريّ، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: إن الله تبارك وتعالى لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه، خَلا ولده نَجِيًّا، فقال بعضهم لبعض: ألستم قد علمتم ما صنعتم، وما لقي منكم الشيخ، وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى! قال: فيغرُّكم عفوهما عنكم، فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدٌ، قالوا: يا أبانا، أتيناك في أمر لم نأتك في أمرٍ مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله! حتى حرّكوه، والأنبياء أرحم البرية، فقال: مالكم يا بَني؟ قالوا: ألستَ قد علمت ما كان منا إليك، وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قال: بلى! قالوا: أفلستما قد عفوتُما؟ قالا بلى! قالوا: فإن عفوكما لا يغني عنّا شيئًا إن كان الله لم يعفُ عنا! قال: فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله لنا، فإذا جاءك الوحي من عند الله بأنه قد عفا عمّا صنعنا، قرّت أعيننا، واطمأنت قلوبنا، وإلا فلا قرّةَ عَين في الدنيا لنا أبدًا. قال: فقام الشيخ واستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين. قال: فدعا وأمَّن يوسف،، فلم يُجَبْ فيهم عشرين سنة = قال صالح المرِّي: يخيفهم. قال: حتى إذا كان رأس العشرين، نزل جبريل ﷺ على يعقوب عليه السلام، فقال: إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك، وأنه قد عفا عما صنعوا، وأنه قد اعتَقَد مواثيقهم من بعدك على النبوّة.(٩)١٩٩٤٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، قال: والله لو كان قتلُ يوسف مضى لأدخلهم الله النارَ كُلَّهم، ولكن الله جل ثناؤه أمسك نفس يوسف ليبلغ فيه أمره، ورحمة لهم. ثم يقول: والله ما قصَّ الله نبأهم يُعيّرهم بذلك إنهم لأنبياء من أهل الجنة، ولكن الله قصَّ علينا نبأهم لئلا يقنط عبده.
* * *وذكر أن يعقوب توفي قبل يوسف، وأوصى إلى يوسف وأمره أن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق.
* ذكر من قال ذلك:١٩٩٥٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما حضر الموتُ يعقوبَ، أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق، فلما مات، نُفِخ فيه المُرّ وحمل إلى الشأم. قال: فلما بلغوا إلى ذلك المكان أقبل عيصا أخو يعقوب(١٠) فقال: غلبني على الدعوة، فوالله لا يغلبني على القبر! فأبى أن يتركهم أن يدفنوه. فلما احتبسوا، قال هشام بن دان بن يعقوب(١١) = وكان هشامٌ أصمَّ لبعض إخوته: ما لجدّي لا يدفن! قالوا: هذا عمك يمنعه! قال: أرونيه أين هو؟ فلما رآه، رفع هشام يده فوجأ بها رأس العيص وَجْأَةً سقطت عيناه على فخذ يعقوب، فدفنا في قبر واحد.

(١) انظر تفسير" التأويل" فيما سلف ص: ٢٧١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير" فاطر" فيما سلف ١٥: ٣٥٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير" الولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(٤) انظر تفسير" التوفي" فيما سلف ١٥: ٢١٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة:" قال ابن عباس يقول"، وبين صواب ما أثبت، وانظر الخبر التالي رقم: ١٩٩٤٢.
(٦) في المخطوطة:" في بعض القرآن قد قال الأنبياء توفني"، وصوابها ما أثبت، أما المطبوعة فقد كتبت:" في بعض القرآن من الأنبياء من قال توفني"، غير مكان الكلام لغير حاجة.
(٧) لم أجد للذي قاله ابن جريج دليلا في القرآن! فلعله وهم، فإن النهي عن تمني الموت صريح في السنة.
(٨) في المطبوعة:" مغموس في نعيم الدنيا"، وفي المخطوطة:" مغموس في نعيم الدنيا" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. وعنى بالنبت هنا: المال الكثير الوفير، والنعمة النامية، وقد جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ قال لقوم من العرب: أنتم أهل بيت أو نبت؟ فقالوا نحن أهل بيت وأهل نبت. وقالوا في تفسيره: أي نحن في الشرف نهاية، وفي النبت نهاية، أي: ينبت المال على أيدينا
وهذا الذي قلته أصح في تأويل الحديث، وفي تأويل هذا الخبر.
(٩) الأثر: ١٩٩٤٨ -" صالح المري"، هو" صالح بن بشير بن وداع المري"، منكر الحديث، قاص متروك الحديث، مضى برقم: ٩٢٣٤.
و" يزيد الرقاشي"، هو" يزيد بن أبان الرقاشي"، قاص، متروك الحديث، مضى قبل مرارًا، آخرها: ١١٤٠٨.
وهذا خبر هالك، من جراء هذين القاصين المتروكين، صالح المري، ويزيد الرقاشي.
(١٠) في المطبوعة:" عيص"، وأثبت ما في المخطوطة، وسيأتي بعد:" العيص"، بالتعريف، وهو في كتاب القوم" عيسو"، وهو ولد إسحاق الأكبر، وهو أخو يعقوب.
(١١) في المطبوعة:" هشام بن دار"، لم يحسن قراءة المخطوطة، وولد يعقوب في كتاب القوم هو" دان" كما أثبته.
و" هشام" هذا، هو في كتاب القوم" حوشيم".

(تفسير الطبري — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ))

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٥_١٠٧
من سورة يوسف 
﴿وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ (١٠٥) وَمَا یُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوۤا۟ أَن تَأۡتِیَهُمۡ غَـٰشِیَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ (١٠٧)﴾ [يوسف ١٠٥-١٠٧]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ [غَفْلَةِ](١) أَكْثَرِ النَّاسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ كَوَاكِبَ زَاهِرَاتٍ ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ وَأَفْلَاكٍ دَائِرَاتٍ، وَالْجَمِيعُ مُسَخَّرَاتٌ، وَكَمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِطَعٍ مُتَجَاوِرَاتٍ وَحَدَائِقَ وَجَنَّاتٍ وَجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ، وَبِحَارٍ زَاخِرَاتٍ، وَأَمْوَاجٍ مُتَلَاطِمَاتٍ، وَقِفَارٍ شَاسِعَاتٍ، وَكَمْ مِنْ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتٍ، وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَثَمَرَاتٍ مُتَشَابِهَةٍ وَمُخْتَلِفَاتٍ، فِي الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، فَسُبْحَانَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، خَالِقِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ وَالصَّمَدِيَّةِ ذِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِيمَانِهِمْ، إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ؟ وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالِ؟ قَالُوا: "اللَّهُ"، وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ(٢) أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالُوا: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ" يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ قَدْ"، أَيْ حَسْبُ حَسْبُ، لَا تَزِيدُوا عَلَى هَذَا(٣) .وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمَانَ: ١٣] وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك"(٤) .وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ: ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ إِذَا عَمِلَ رِيَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعَمَلِهِ ذَاكَ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٢] .وثمَّ شِرْكٌ آخَرُ خَفِيٌّ لَا يَشْعُرُ بِهِ غَالِبًا فَاعِلُهُ، كَمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ عُرْوَة قَالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَرِيضٍ، فَرَأَى فِي عَضُدِهِ سَيْرًا فَقَطَعَهُ -أَوِ: انْتَزَعَهُ -ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسنَّهَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ(٥)وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة شرْك"(٦) .وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: " [الطيَرة شِرْكٌ](٧) وَمَا منَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ"(٨) .وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ يَحْيَى الْجَزَّارِ(٩) عَنِ ابْنِ أَخِي، زَيْنَبَ [عَنْ زَيْنَبَ](١٠) امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ(١١) وَبَزَقَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الحُمْرَة فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِي، فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا، قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: خَيْطٌ رُقِى لِي فِيهِ. قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأغنياءٌ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ والتِّوَلة شِرْكٌ". قَالَتْ، قُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا، فَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ مِنَ الشَّيْطَانِ. كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا"(١٢) .وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم(١٣) وَهُوَ مَرِيضٌ نَعُودُهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَعَلَّقت شَيْئًا؟ فَقَالَ: أَتَعَلَّقُ شَيْئًا! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ تَعَلَّق شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ"(١٤) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(١٥) .وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ علَّق تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ تَعَّلق تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ ودَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ"(١٦)وَعَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ(١٧) .وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ(١٨) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي: ابْنَ الْهَادِ -عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إن أخْوَف ما أخاف عليكم الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ". قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً"(١٩) .وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيد، بِهِ(٢٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، أَنْبَأَنَا ابْنُ لَهِيعة، أَنْبَأَنَا ابْنُ هُبَيْرة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ(٢١) وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ"(٢٢) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ العَرْزَمي، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ -رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ -قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقَوْا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْلِ. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَزْن وَقَيْسُ بْنُ الْمُضَارِبِ فَقَالَا وَاللَّهِ لَتُخْرِجَنَّ(٢٣) مِمَّا قُلْتَ أَوْ لَنَأْتِيَنَّ عُمَرَ مَأْذُونًا لَنَا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، قَالَ: بَلْ أخرج مما قلت، خطبنا رسول اللَّهِ ﷺ [ذَاتَ يَوْمٍ](٢٤) فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقَوْا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: فَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نُعُوذُ بِكَ [مِنْ](٢٥) أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ"(٢٦) .وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ فِي ذَلِكَ هُوَ الصِّدِّيقُ، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ لَيْث بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَار قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ -أَوْ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا يُذهب عَنْكَ صَغِير ذَلِكَ وَكَبِيرَهُ؟ قُلِ: اللَّهُمَّ، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا لَا أَعْلَمُ"(٢٧) .وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا". قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ النَّجَاةُ وَالْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ إِذَا قَلْتَهُ برئتَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَصَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ؟ ". قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ"(٢٨) .قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ هَذَا يُقَالُ لَهُ: "أَبُو النَّضْرِ"، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ(٢٩) سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أصبحتُ، وَإِذَا أمسيتُ، وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي. قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ"(٣٠) .وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ مِنْ أَبِي سُلَيْمٍ، [عَنْ مجاهد](٣١) عن أبي بكر الصديق قال: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَقُولَ. . . فَذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: "وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أجُرّه إِلَى مُسْلِمٍ"(٣٢) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: أَفَأَمِنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ [بِاللَّهِ](٣٣) أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرٌ يَغْشَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ٤٥ -٤٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٩٧ -٩٩] .

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في ت، أ: "في صحيح مسلم".
(٣) صحيح مسلم برقم (١١٨٥/٢٢) .
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٤٧٧) وصحيح مسلم برقم (٦٨) .
(٥) سنن الترمذي برقم (١٥٣٥) .
(٦) المسند (١/٣٨١) وسنن أبي داود برقم (٣٨٨٣) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٣٥٣٠) .
(٧) زيادة من ت، أ، والمسند وسنن أبي داود.
(٨) المسند (١/٣٨٩) وسنن أبي داود برقم (٣٩١٠) .
(٩) في ت، أ: "يحيى بن الجزار".
(١٠) زيادة من ت، أ، والمسند.
(١١) في ت: "تنجيح".
(١٢) المسند (١/٣٨١) .
(١٣) في ت: "حكيم".
(١٤) المسند (٤/٣١٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٠٧٢) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به، وقال الترمذي: "وحديث عبد الله بن حكيم إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن حكيم لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ يقول: "كتب إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ".
(١٥) سنن النسائي (٧/١١٢) .
(١٦) المسند (٤/١٥٦) وقال المنذري في الترغيب (٤/٣٠٧) : "رجاله ثقات".
(١٧) صحيح مسلم برقم (٢٩٨٥) .
(١٨) المسند (٤/٢١٥) .
(١٩) المسند (٥/٤٢٨) وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.
(٢٠) رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٣) من طريق عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ به.
(٢١) في ت: "لا غير إلا غيرك".
(٢٢) المسند (٢/٢٢٠) ورواه ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص ٢٩٣) مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ به، فصح الحديث بحمد الله.
(٢٣) في ت: "ليخرجن".
(٢٤) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٢٥) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٢٦) المسند (٤/٤٠٣) .
(٢٧) مسند أبي يعلى (١/٦٢) ورواه ابن جريج عن ليث، عن أبي محمد، عن حذيفة نحوه، وأخرجه أبو يعلى في المسند (١/٦٠) وأبو محمد مجهول، وليث بن أبي سليم ضعيف.
(٢٨) ورواه أبو نعيم في الحلية (٧/١١٢) من طريق يحيى بن محمد البختري، عن شيبان بن فروخ به نحوه، وقال: "تفرد به عن الثوري يحيى بن كثير".
(٢٩) في هـ، أ: "عاص" والمثبت من ت والمسند.
(٣٠) المسند (١/٩) وسنن أبي داود برقم (٥٠٦٧) وسنن الترمذي برقم (٣٣٩٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٧٦٩١) .
(٣١) زيادة من ت، أ.
(٣٢) المسند (١/١٤) .
(٣٣) زيادة من ت، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))