الجمعة، 11 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢
من سورة الرعد 
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد ٢]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ: أَنَّهُ الَّذِي بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عمَد، بَلْ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ(١) وَتَسْخِيرِهِ رَفَعَهَا عَنِ الْأَرْضِ بُعدًا لَا تُنَالُ ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بِجَمِيعِ الْأَرْضِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَجِهَاتِهَا(٢) وَأَرْجَائِهَا، مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَبُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةِ مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامِ، وَسُمْكُهَا فِي نَفْسِهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ. ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُحِيطَةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمَا حَوَتْ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهَا مِنَ الْبُعْدِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّالِثَةُ مُحِيطَةٌ(٣) بِالثَّانِيَةِ، بِمَا فِيهَا، وَبَيْنَهَا(٤) وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَا الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ](٥) تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: ١٢] وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا السماواتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلاة، وَالْكُرْسِيِّ فِي الْعَرْشِ كَتِلْكَ(٦) الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ(٧) وَفِي رِوَايَةٍ: "وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ: قَالُوا: لَهَا عَمَد وَلَكِنْ لَا تُرَى.وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، يَعْنِي بِلَا عَمَدٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [الْحَجِّ: ٦٥] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿تَرَوْنَهَا﴾ تَأْكِيدًا لِنَفْي ذَلِكَ، أَيْ: هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا تَرَوْنَهَا. هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ فِي الْقُدْرَةِ. وَفِي شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الَّذِي آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ(٨) وَيُرْوَى لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ:وأنتَ الَّذِي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة ... بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا ...فقلت له: فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا ... إِلَى اللَّهِ فرْعَونَ الَّذِي كانَ طَاغيا ...وَقُولا لَهُ: هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه ... بِلَا [وتَد حَتَّى اطْمَأَنَّتْ(٩) كَمَا هِيَاوقُولا له: أأنتَ رَفَّعتَ هَذه ... بلا](١٠) عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا؟ ...وَقُولا لَه: هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا ... مُنيرًا إِذَا مَا جَنَّك الليَّل هاديا وقُولا لَهُ: مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً ... فيُصبحَ مَا مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا؟ ...وَقُولا لَهُ: مَن يُنْبِت الحَبَّ فِي الثَّرَى ... فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا؟ ...وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه فِي رُءُوسِهِ ... فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا(١١)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ"(١٢) وَأَنَّهُ يُمَرَّر(١٣) كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ إِلَى انْقِطَاعِهِمَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٨] .وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمَا، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي بَطْنَ الْأَرْضِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُمَا وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ إِذَا وَصَلُوا هُنَالِكَ، يَكُونُونَ أَبْعَدَ مَا يَكُونُ(١٤) عَنِ الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي تقومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، قُبَّةٌ مِمَّا يَلِي الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ بِمُحِيطٍ كَسَائِرِ الْأَفْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ(١٥) لَهُ قَوَائِمُ وَحَمَلَةٌ يَحْمِلُونَهُ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّر مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ السَّبْعَةِ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ.مِنَ الثَّوَابِتِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ سَخَّرَ هَذِهِ، فَلأن يُدْخُلُ فِي التَّسْخِيرِ سائرُ الْكَوَاكِبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا نَبَّهَ(١٦) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٧] مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ(١٧) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أَيْ: يُوَضِّحُ(١٨) الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ إِذَا شَاءَ كَمَا ابْتَدَأَ خَلْقَهُ.

(١) في ت، أ: "بل بأمره وبإذنه".
(٢) في ت، أ: "جهاتها ونواحيها".
(٣) في ت: "تحيط".
(٤) في أ: "بينهما".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "كمثل".
(٧) سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية: ٢٥٥ من سورة البقرة.
(٨) رواه ابن عبد البر في التمهيد (٤/٧) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أمية بن أبي الصلت: "آمن شعره وكفر قلبه؟ " قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟ . . . الحديث.
(٩) في ت أ: "استقلت"، والمثبت من سيرة ابن هشام.
(١٠) زيادة من ت، أ، وسيرة ابن هشام.
(١١) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨) .
(١٢) انظر: تفسير الآية: ٥٤.
(١٣) في ت: "يمر".
(١٤) في ت، أ: "ما يكون".
(١٥) في ت، أ: "لآن".
(١٦) في ت: "بينه".
(١٧) في ت: "في قوله".
(١٨) في ت، أ: "نوضح".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

ليست هناك تعليقات: